لا تكاد مهنة في العالم تخلو من المتاعب وتحفها المكاره من كل جانب ، بَيْد أن الكثيرَ من الناس حين يتحدثون عن التدريس يتغاضَوْن عن متاعبه ، ويغبطون المدرسين على حسن حظهم :
ساعات عمل أقل ..أيام عطل أكثر .. في منأى عن أعين المراقبين المزعجين ..كل مدرس هو ربُّ قسمه ، ولا أحد يملي عليه أوامره غير سلطة الرقابة الإلهية .
ولدحض هذا التصور الخاطئ قررت يوما أن أصطحب معي إحدى هؤلاء لترى النعيم الذي نرفل فيه ، والراحة التي تغدق علينا كل حين .
قلت لإحداهن :
تعالي معي يوما واحدا لتري ما يحسدنا الناس عليه.
ذهبنا صباحا على الساعة الثامنة إلا ربع ، وما إن رنَّ جرس الدخول حتى
بدأ التلاميذ يلجون القسم الواحد تلو الآخر :
الأول ..الثاني..ثلاثون ..أربعون ..ماهذا : كل هؤلاء في قسم ؟
قلت :نعم .
قالت: نحن لنا ابن أو اثنان وبالكاد نستطيع السيطرة عليهم .
قلت : ذلكم ما تحسدوننا عليه.
قالت ضاحكة : الحقيقة ..كان الله في عونكم
قلت : آمين ثم عقبتُ قائلة :
المشكل ليس في كَمِّهم فحسب ، بل حتى بيئاتُهُم ووضعياتهم تتباين :
الفقير والميسور.. الخلوق وسئ الخلق .. الهادئ والمتمرد ..
و المدرس عليه أن يستوعب هذا الإختلاف ، ويكون مربيا ومعلما ومحللا نفسيا وأخصائيا اجتماعيا و...
فقالت ثانية :
فعلا أسأل الله لكم العون .. الأمر ليس هينا .
شرعتُ في الحصة وفحأة تناهى لسمعنا صراخ وضجيج بالخارج ، خرجتُ مسرعة لتقصي الأمر ، ويا لفداحة ما رأيت :
أحد التلاميذ آخذ بتلابيب أستاذه وهو يسبه بأبشع الصفات .. لم يقف الأستاذ مكتوف الأيدي بل كان يرد باللكمات على " خصمه " الجديد، تدخلت الإدارة وحلت هذا النزاع ليعود كل إلى قسمه .
نقلت الخبر لزائرتي وهمست لها مازحة طوبى لنا ..أليس كذلك ؟
قالت وعلامات التأسف بادية على محياها :
في زماننا ماكنا نجرؤ على إمعان النظر في أستاذنا خوفا وهيبة .
قلت : كان زمان أما اليوم فقد "تطور المجتمع "، وأصبحت قلة الأدب عنوان الرجولة وسبيل إثبات الذات .
بخجل طأطأت رأسها وقالت : الحقيقة كان الله في عونكم
.
رجعت لإتمام الدرس وختمته بسؤالي التقليدي :
هل فهمتم الدرس ؟
أجابوا بصوت واحد : نعم .
فبدأت أطرح عليهم أسئلة لاختبار درجة فهمهم : ويا ليتني سكتت واكتفيت بنعم .
كالعادة الأيادي القليلة المرتفعة دائما هي التي تجيب .
قلت لهم : ألم تقولوا جميعا فهمنا ؟؟؟؟؟؟؟؟
قالوا: نعم
قلت : فما المشكلة ؟
قالوا :لامشكلة.
وبامتعاض قلت لها :
ماذا تفعلين إذن مع أناس كهؤلاء ، أكاد أُجن من أمثالهم .
قالت لي : لاعليك أنت شرحت الدرس وأديت مهمتك ، وليفهم من شاء ومن لم يشأ فليتحمل مسؤوليته .
رن الجرس فجاء بعض التلاميذ يقولون لي : جزاك الله خيرا أستاذتي
فتحطم جدار الحزن الذي غلَّف قلبي في نهاية الحصة .. وبددت هذه الكلمات الحانية ماجال في خاطري .
قلت لزائرتي : لولا الله ثم هذه البراعم والزهور الطيبة لقدمت استقالتي من مهنة المتاعب هذه .
وحين هم القسم الثاني بالدخول ، لمحت زائرتي قدجمعت أغراضها فقلت : إلى أين ؟ لازالت ثلاث حصص أخرى.
قالت وهي تسمع ضجيج التلاميذ متوجهين إلى أقسامهم :
اكتفيت .. اكتفيت .. أعانكم الله .