مرباع ساخن
ـ أ ـ
توقف ، هو ما يزال يسمعها تخوض في ماء الغدير ، صوت اختناقات الماء يذكّره بطقس تزاوج حمام بري ، تلك ال ـ تنتهك صفو الغضار تقتحمه بنداء قاتل : أن اخلع عنك وهلم ، ذلك الجسد العاري المنسوخ ببعد رابع يتوسله : أن هلم ، يالفحولته المفخخة في حقل الروح ، يالكيانه المتأرجح على سلك ديباج من شفا فورة بركان . كان لزاما عليه طرد غرائزه إلى منفى احتجاج بأقصى الأرض ، خلع حواسه الخمس على سلم تشاغل فج . سبر جواده ليتأكد من انه لا يبتعد عن دائرة المرعى ، هو عوّده ان يبقى قريبا من رمحه الشاخص في المكان على الدوام ؛ مقابل إعفائه من ثقل أغلال مشينة بحق جواد يسام بمائة من تلاد خيول العرب ، برم لفافة تبغ ، هش ذبابة طنانة ، شتت غلالة دخان فزت من بين شفتيه الذاويتين ، عادت إليه الذبابة بطنين مقزز ، هو الآن اكثر مقتا للذباب الطنان ، تتبعها بنظرات حقودة ، هادنها ، ناداها ، ود لو أنها تصير فراشه ، إذن سيرسلها إلى حيث قلبها الغافي ، وسيوصيها إيقاظه برفيف هامس ، قلبها رقيق وشفاف .. قلبه تلميذ خائب ، مضى هلال وهل ثان وهو يعيد عليه الدرس ، ذات الدرس المغسول بالتكرار " اقسم بهذا العود والرب المعبود .. الله من فوقي يشهد وملائكته تشهد وهذا القشع الصغير يشهد .. إني سأفعل يا أبي .. إني سأرعى قطيعي في مركز زلزال " .. العهد قرين الموت .. طاعة الوالدين مصانة حد الموت .. سنن هبطت من السماء ومكثت في الأرض ، مذ كانت هذي الصحراء ، وكان الاجداد .. جرح الأفق المغاير بإلتفاتة فاحصة ، كانت هي أمامه تهرع إلى ملابسها تحف بها عاصفة صراخ وااواااااه ، من ورائها شرع غزاة بتكوير القطيع لإستياقه , .
ـ أَ ـ
.. ها أنا اخسر حنجرتي ولا املك غيارا آخر أواصل به مناداة تلك البلهاء .. ويح أمي لو تراها كيف تغزل وحدتها كبومة خرفه .. هاهي تضيع قبالتي يا أمي في سحب دخان تبغها كأرمل طرد من جنة النساء .. قالت هي تتشبه بالرجال منذ الصغر .. هكذا أجد صوتها ، عجرفتها ، خشونتها .. أنا لم أر الكحل ينمل يوما في عينيها المتمردتين على طغيان لثامها ، لم أشم غير لوثة تبغها ورائحة ألشكوة .. هي لا تعرف من الخرز ألوانه ، الجزع من العقيق .. جاهلة هي يا أمي بتفاصيل النساء ، لا رغبات ، لا أسرار ، فتاة صغيرة اكثر منها أنثى .. عصر أمس حثت الرماد وكوحتني بتراب الموقد ، لم افعل ما يسئ إليها ، ذلك كله لأني طلبت منها وشم نهدي على طراز وشم في ظاهر يدها ، قالت هي لم يقع بصرها على مفاتن امرأة قط ، اليوم علمت سبب ثورتها اول عهدي بها حين رفعت اثوابي لاريها عضة رتيلى في أعلى فخذي .. جل نهارنا تصرفه في شحن الفتها لابلها ، او تجاذب جواد ابيها حبل النهار، هي لا تفارق رمح ابيها .. قليلا ما نجلس معا يا امي ، حتى لما نجلس ونكون قريبتين من بعضنا تضع العصا فيما بيننا ، تصوري يا أمي حجازا بين فتاتين ، أي بلاء أضيف الى جنس النساء هي ، وا لهفي على رفيقاتي في النجع ، أيني منهن الآن وأينهن مني وهذا الضحى الربيعي الرائق ، هذا الغدير ، هذا المرباع الخلاء .. وا قدّ جيبي .. وا فضيحتي رجال .. رجال.. وااو واااه .. ويلي غزاة وااوااااااه ..
ـ ي ـ
وانفجر الصخب فجاة فوق بقعة صغيرة من خارطة الصحراء ، وعاث برتابة استوطنت امن دوارج وزاحفات رسمت حضورها القانع بتعابير شتى على ترب المرباع ، اقصى اطيارا بثت جذلها الصدّاح ، وما كان ينقصها الا التحليق في الفضاء ، وتسجيل اروع الصور المركبه لربيع يدخل في مهابة خريف آتٍ . صراخ الفتاة يلحن دوامة فزع ، حنين إبل هائجة أربك قوائمها ذعر جُفال ، صيحات غزاة يعالجون نفور الإبل العاصية على الإستياق بعصيهم اللاهبة ، صهيل جواده المتحفز لفعل ما .. هب منتخيا بصوات رخيم أخذ يمطه ويحشره في فضاء الصخب إلى أقصى مدى يبلغه " بويضا .. بويضا .. وودهوو .. وودهوو " . كان ينقض جدائله على عادة الفرسان المتأهبين لخوض المعركة . انسلخ عن دثاره التنكري المقيت ، او الكفن كما يدعوه مع نفسه ، طوح به الى علو قائم ليعضد صواته للقطيع بعالم الإشاره ، حذف لثامه بحركة طاردة . كانت هي أمامه تزدرد صراخها دفعة واحدة وتنقل علامات تعجبها الى ارض قريبة وهي تضع أجوبة جاهزة إزاء أسئلة كانت مؤجلة إلى غد مجهول وقع في شرك اللحظة . لبت نياقه الأواضح نداء راعيها وانسلت مثل خيوط قطن نديف من بين قطيع الفتاة الهجين الأوبار ، وجرت على نحو متراص كسيل غطاه الزبد تتقدمها القعدة فيما لحق بها قطيع الفتاة . تنحى الغزاة عن وجه الكارثة محتفظين بزمن يضمن لهم نجاح صولة أخرى تقررها دقائق يدار معها فلك المحاولة . كرب السرج وامتطى صهوة جواده ، صاح بها وهو يصارع الرسن لكبح جماح مشترك لخوض المنازلة :
ـ الإبل تقترب اعتلي حدج القعدة ايتها المليحة .
ـ إذن أنت رجل حقّاً !!
ـ لا وقت لعتاب ..لا تخافي لن يتزحزح القطيع عن مكانه .
ـ خدشت روحي يا فتى .
ـ هيا اركبي واطنبي بالصوات إن نجحت لن يفلحوا حتى لو قتلوني .
ـ فداك روحي !
ـ تمسكي جيدا وحاذري ان يصلوا القعدة إن خسرناها ضاعت ابلنا .
جال القطيع حول القعدة على ترديد صوات الفتاة ، وزلزل الأرض من تحت دوامة حاكى إرزام حنينها سقف السماء. كان الغزاة ينفضّون عن قمع مشورتهم وينشطرون إلى فريقين ، أحدهما يمّم وجهته صوب الإبل الجائلة حول مركزها، والآخر اصطف لمقاتلة الفتى الذي خرق الصف وشتته في ثلاث صولات ناجعة خلفت ثلاث جرحى طاولوا أرسان خيولهم .كانت زغرودة تقطع صواتها كلما عاد من صولته مزهوا، وتصب في خيبة الغزاة عناد القطيع الدائب الجولان . كان يستعرض حيالها بشعر يعرّش من خلف ظهره ويلاعب شليل جواده المرفوع . من البيوت هب الوالدان الى جانب الفتى ـ وكانا من الفرسان طيبي الصيت ـ عرف نخوتهمٍٍٍالغزاة فهربوا تاركين خيول جرحاهم غنيمة للفتى . جرى عتاب بين الرجلين عن سبب إخفاء هوية الفتى ، وكان جواب مقنع انه الطمع في انس المجاوره برغم انهما من قبيلتين معاديتين ، ومن ثم الخشية من انه لا يحل بخلوة منزله إن هو اخبره ـ ساعة استوقفه ظاعنا ـ أنَّ له ولدا ذكرا سيشاطر ابنته المرعى .
كان هو يترجل عن صهوة جواده ويقتحم دهشتها بقبلة .
الموصل