وقيل: إن أفضل ما قيل في وصف القلم من الشعر قول أبي تمام في مدحه لمحمد بن عبدالملك الزيات:
لك القلمُ الأعلى الذي بِشَبَاته ... تصاب من الأمر الكُلى والمفاصلُ(1)
له الخلواتُ اللاءِ لولا نجَيُّها ... لما احتفلت للملك تلك المحافلُ(2)
لُعَابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُه ... وأَرْيُ الجنى اشتارته أيدٍ عواسلُ(3)
له ريقَةٌ طلٌّ ولكنّ وَقْعَها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ(4)
فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل(5)
أطاعته أطراف الرماح وقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل(6)
إذا استغزر الذِّهْنَ الذكيَّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي سوافل(7)
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل
رأيت جليلاً شَأْنهُ وهو مرهف ... ضنىً وسميناً خطبه وهو ناحل(8)
من كتاب الارتقاء بالكتابة د. محمد بن إبراهيم الحمد
----------------------------
(1) الشباة: حد القلم، وقوله: =تصاب من الأمر+، روى _ أيضاً _: =ينال من الأمر+، والكُلى: جمع كلية وكلوة جاء بالياء والواو، والمفاصل: جمع مفصل وهو ملتقى كل عظمين، أراد أن القلم يطبق المفصل، ويصادف المحز، وبه ينال مقاصد الأمور؛ فإنه ينال بالأقلام ما يعجز عنه مجالدة اللسان.
(2) يعني أن أصحاب القلم هم أهل المشورة، وموضع السر يُخْلي لهم الملوك المجالس للمشورة، وبهم يَحْصُل نظام الملك، والنجي: المسارر، والتناجي: المسارة، وأراد به المشير؛ فإن المشورة تكون سراً غالباً، والاحتفال حسن القيام بالأمور، والمحافل جمع محفل كمجلس ومقعد وهو المجتمع.
(3) اللعاب: ما يسيل من الفم، والقاتلات صفة كاشفة للأفاعي ذَكَرها تهويلاً، والأَرْيُ: ما لزق من العسل في جوف الخلية، والجَنَى: العَسَل، واشتارته: استخرجته، وأيدٍ: جمع يد، وعواسلُ: جمع عاسلة أي مستخرجة العسل، والعاسل مُسْتَخْرِجُ العسل من موضعه، والمصراع الأول بالنسبة إلى الأعداء، والثاني بالنسبة إلى الأولياء؛ يعني أن لعاب قلمه بالنسبة على الأعداء سم قاتل، وبالنسبة إلى الأولياء شفاء عاجل.
(4) الطل: المطر الضعيف، والوابل: المطر الشديد الفخم القطر.
يقول: إن ما يجري من القلم حقير تافه في ظاهر الأمر، لكن له أثرُ خيرٍ عم المشارق والمغارب.
(5) أراد بالخمس اللطاف الأصابع الخمس، والشِّعاب: جمع شِعْب وهو الطريق في الجبل، والحوافل جمع حافلة، يقال: حفل اللبن وغيره حفلاً وحفولاً: اجتمع، واحتفل الوادي: امتلأ وسال.
(6) قوله أطاعته أطراف الرماح الخ: هو جواب إذا، وروي أطاعته أطراف القنا وتقوضت، يقال: تقوضت الصفوف إذا انتقضت، وأصله من تقويض البناء وهو نقضه من غير هدم، والنجوى: السر، وتقويض أي كتقويض الخيام الجحافل: فاعل قوضت، وهو جمع جحفل وهو الجيش.
(7) قوله استغزر الذهن: أي وجده غزيراً، وفاعله ضمير القلم، والذكي المتوقد، وروي الخلي بَدَلَهُ، والخلي: الخالي، وإنما تكون أعالي القلم سوافل حين الكتابة.
(8) رأيت: جواب إذا وشأنه فاعل جليلاً، وجملة وهو مرهف: حال، وهو اسم مفعول من أرهفت السيف ونحوه إذا رققت شفرته، وضنىً: تمييز، وهو مصدر ضنى من باب تعب إذا مرض مرضاً ملازماً، وسميناً: معطوف على جليلاً، وناحل من نحل الجسم ينحل بفتحهما نحولاً سقم، ومن باب تعب.