(( لحظةُ وداعٍ ))
بقلم / ربيع بن المدني السملالي
رأى الألمَ يَسيلُ على تقاطيع وجهها الطّفولي ، وعلاها الشّحوبُ والكَرْكَمُ ، وتلاشى ذلك الأملُ الذي كان يلوحُ في أفق حياتها .. وهو يصفعها ذاتَ صباحٍ مُتعجرفٍ بكلمة : الوداع .. ( الوداع عزيزتي ) .... كأنّها حكمٌ بالإعدام يُلفظُ من لسان قَاضٍ في وجهِ إنسان بريء ... نظراتُها الحيرى تُحاصِرُه ، تمزّقُه ، وتقطّع نياطَ فؤاده ..حتّى خُيّل إليه أنّها تريدُ حفظَ وجهه عن ظهر قلبٍ لتكتبَ عنه روايةً في مائة صفحة عنوانها ( غُراب البين أبداً ينعقُ ) ، عن هذا الفِراق الذي بات أقربَ إليها من شَرَك نعلها ... شعرَ إزّاءها بالحزن يُغطّيه كمِعطفٍ ثخين ، استولَى عليه ضيقٌ طاغٍ وهو في خضمّ تلك اللّحظات القاسية .. أحسّ بالدّغل يستقبلُها بريحٍ موحشة ، وقد انتابها شعور بالقهر وتملّكتْها كآبةٌ خرساءُ إذ صارت الألوانُ في عينيها قاتمةً والسّماء مكفهرّةً ، لسانُ حالها : لتندكّ الجبال على الأرض ، حياة كريهة مفجعة لا خيرَ فيها ..لعن في دواخله الفقر والبؤس والنّاس ..ماذا عساه أن يفعلَ ، وهو صفر اليدين لا يملك من متاعِ الدّنيا شيئاً ذا بالٍ ، هل يظلّ يكذبُ عليها ؟ هل يمنّيها بالأماني والأحلام المستحيلة ؟ وهل ينفعه أن يُشيّدَ لها قصوراً في مخيلتها والواقع يشهد أنه لا يستطيع أن يهيئ لها منزلاً من غرفتين في حيّ تعيش فيه البشرية كالحشرات ! ، إلامَ هذا الحرمان ؟ وعلاَمَ هذا الاختناق ؟ وهل سأبقى هكذا ما بقيت الرّوحُ في الجسد ؟.. أسئلة كثيرة تناسلت في عقله الرّازح تحت رحمة التّيه ، والتّشرّد ... وسادَ بينهما صمتٌ شديدُ الوطأة كالمرض ، وصدورهما تغلي كالمراجل بالعذاب والشّقاء والبؤس ...ثمّ مدّت إليه يداً باردةً كأيادي الموتَى مستأذنة في الرّحيل ، قائلةً في يأسٍ وحنقٍ غيرَ مُتفهّمة حاله وأحواله : ( تودّعوننا وقتما شِئتم ، وتستبقوننا وقتما شئتم . وداعاً أيّها الرّجل ، وداعاً أيّها الرّجال ) ..ثمّ تركته ضائعاً في مكانه كما يترك السّكيرُ جرّةَ خمرٍ فارغة ، ذاهبة حيثُ لا تدري بخطىً ثقيلة بطيئة وكأنّها تنتعلُ حذاءً من حديد ، بدا منظرها في تلك اللّحظة الصّباحية تحت شمس مارس المشرقة كلوحة زيتية من صنع فنّان مُبتدِئ ، لا تمتّ للنّضارة بصلة ، ولا للجمال بهاجس ..بينما هو أخذ يحملقُ في اللاّشيء كأحمق فقد السيطرة على عقله فلم يعد يعرف تفسيراً لحياته ، لضياعه ، ولوقوفه كتمثال من الشّمع وسط كومة من الآدميين . شاعراً في وحدته الصّامتة بأنّه شيء تافه لا يحفلُ به أحد . أو أنّه يعيش في مدينة خارج الزّمن والمكان ..ونفسه تتوقّى قبل الرّحيل رحيلاً ...
يُحاول أن يُلملمَ أشلاءَ نفسه التي بلغت حدّ الهشاشة حينذاك ولكن عبثاً . وذكريات كطحالب الوديان الرّاكدة تنامُ في زواياه بهدوء بغيض ... ذكريات لا تستحق العيشَ إلاّ بالقدر الذي تستحقُ به الموت ...
انتهيت من تسويد هذه الصفحة صبيحة يوم الأربعاء 18 يوليوز 2012