قبلات مميتة
دوران
في دورانها المثير راحت تدبّ بقدميها الصغيرتين ، العاريتين على الأرض المليئة بالحصى . تتلمس المركز الثابت ، وتلف بلا توقف . حين يشتد بها الجوى تنضو قطعة من ملابسها . وحيدة هي ، وصورته في الإطار بالأسود والأبيض . بغليون من خشب عتيق ، بلا دخان يتصاعد . تدور ، وتنضو قطعة أخرى حتى تشعرأنها خفيفة خفة لا يمكن تخيلها أبدا.
في تلك اللحظة انشقت الظلمة عنه . طوقها بساعدين قويين . لثمها في عنقها . لم تتوقف عن الدوران ، لكنها شعرت أن الأرض توقفت .
سقطت حين اختلت خطواتها التي ارتبكت بتأثير القبلة المدوية . حين امتدت يدها لتضيء النور لم تجد أي أحد .
ذوبان
قيل عنها أنها حرام ، و" مالك" بالذات قال فيها الكثير . لكن كأسا واحدة قد تصلح من الأمور أعسرها .
هكذا وجد نفسه يعاقرها ، وهي تشعشع في الطاسة ، وجسده لا يشعر بثقله حتى أنه ودّ لو يطير مثل فراشة ملونة رآها صباح أمس في حديقة المدينة .
قيل إنها حرام ، وهو الفتى الأمرد ، المتعلم ، ابن الناس ، أوشك أن ينهي حياته عندما هجرته ، وفضلت عليه غريمه المحامي ، طويل القامة ، مفتول العضلات . اهتدى لحل وسط . ألا يموت وألا يحيا ، وأن يبقى في المنتصف تماما. حل وسط ، وخير الأمور الوسط . لم ينه حياته ، ودون أن يتمكن من نسيانها رفع كأسا ثانية فشعر بالظمأ أكثر . حدّث نفسه أنه سينساها ، وكانت دهشته هائلة أن وجدها تجلس أمامه على نفس المنضدة. لما عاد إلى نفسه بعد لحظات من شروده وجدها بفستان السهرة المشغول بالخرز الأزرق . توليه ظهرها بعد أن ملأت كأسها حتى الحافة . دون كلمة واحدة تماس الكأسان ، وفي غبطة مرتبكة مررت شفتيها على عنقه . قبلته قبلة أودعتها كل أشواق السنين الخوالي . ثم ذابت في عتامة كأسه الزجاجي الشفاف.
وردية
حين أنهى ورديته المسائية مرّ على بائع الفول ، وابتاع أقراص الطعمية الساخنة ، وبعض الأرغفة البلدية ، وعرج لعربة خضار ومنها اشترى حبتين من الطماطم المتوردة .
صعد السلم المعتم فوجدها في ثوب الشيفون الأحمر ، وقد انحسر عن كتفيها . كانت ترمقه بفضول ، وتوقع أن تكون الليلة مختلفة لسبب يجهله فيما تحاصره ظنون لا يقدر على البوح بها .
تصور أنها ستقوم حالا لتجهز السفرة . تقدمت نحوه بعد أن أغلقت الباب الذي كان مازال مفتوحا ، شعرت ببرودة الجو وبدلا من إحكام الروب على جسدها المشتعل بالفتنة فكت الزر الأقرب إلى نحرها ، فانفلت من العروة . خلعت عنه ملابس الشغل ، ففغم أنفها رائحته الذكورية المميزة.
ارتعش من تيار الهواء البارد الذي جاء من نافذة حجرة النوم، قبل أن يرتدي بيجامته مدت يده تعانقه.
قبلتها كانت حارة ، ودودة ، لم يتمالك نفسه إذ جذبها نحو الفراش . شم رائحة عطر لم يألفه . عطر ثقيل يدوخ الرأس . امتدت يدها تطفئ المصباح ، وارتعش الجسدان للحظات.
أرقته أحلام مزعجة . قام في ساعات الفجر رائقة الضوء . لمح أقراص الطعمية ، جسها بيده فوجدها باردة ، أما الأرغفة فقد تيبست . انكشفت له أسرار صوّرها له عقله المضطرب ، خايلته طيلة تقلباته الممعنة في السواد أطياف تمرق في الحجرة . لما خرج إلى الشرفة وجد الناس نائمين عدا إمام الجامع ، كان يحرك مسبحته في يده وهو يسعل فيما تتحرك السحب المتكاثرة جنوبا في سماء رصاصية بليدة.
خطاب
بعد كوب الشاي الثقيل فكر أن يدعو زكية ليكتب لها الخطاب الذي ألحت عليه كي يسطره لزوجها المسافر إلى الخليج للعمل في مهنة المعمار.
نادى عليها بأعلى صوته أن تصعد ، وهي لم تكذب خبرا . جاءت بالأوراق والقلم الأبنوس الأسود وأظرف الخطابات ماركة " الطائرة " بخطوطها الزرقاء والحمراء مؤطرة محيط المستطيل الورقي .
جلست مواجهة له تماما ، وبدأت تملي عليه ما تريد من طلبات ، وتعلم زوجها الغائب بوحدتها ، مستجيرة من سطوة أحزانها بطلب عودته قبل أن ينفد صبرها.
خيط تفكيرها انقطع حين وجدت يده تعدل حمالة قميصها الستان الخفيف. لم تجرؤ أن تبص في عينيه العسليتين ، فقد كانت تعرف أن وحدته تضنيه بعد موت السيدة حرمه وزواج البنتين ، واستقرارهما في بيتي الزوجية .
تنحنح وارتعش صوته وهو يستعجلها : قولي يا زكية . لماذا سكت ؟
مرة أخرى رأى الحمالة تنزلق من على كتفيها ، وبان منبت النهدين فأغمض عينيه ، وهو يواصل كتابته بخط النسخ.
شعر بأنفاسها تتهدج ، وهي تمسك يده وتقربها من شفتيها : أعرف أنك صرت مثلي وحيدا، ودمعتك قريبة.
لا يعرف السبب الذي جعله يفز من جلسته ، فيسدل الستائر ، ثم يعود فيحتضن يديها ، واضعا رأسه على كتفها ، باكيا كالأطفال؟!
مسمار جحا
تنغص عليه حياته فكرة أن تستولي مطلقته على الشقة بعد أن دفع فيها دم قلبه ، وبعد حكم المحكمة باستيلائها على العين محل النزاع لكونها حاضنة لطفلين رأى أن يستخدم حيلة بسيطة ، لعل وعسى .
الشقة في الدور الثالث ، يصل إليها الشخص بسلم له درابزين خشبي رفيع، لا أثر للنور إذ إنّ كل شقة تضيء فقط للصاعد أو الهابط من طرفها ثم تعود الظلمة التامة.
مكتبته الضخمة في غرفة نومهما المشتركة كانت " مسمار جحا" ، ومن باب العشرة القديمة والذوق اتفقا على نقلها رغم ضخامتها إلى الصالة على أن يأتي في ساعة معلومة كل جمعة ليأخذ منها ما يريد بلا كلام ، وبالمرة يتمكن من رؤية الطفلين داخل البيت لا خارجه.
هكذا استمر الاتفاق الشفهيّ دون خرق للقواعد المتفق عليها حتى كان يوم جمعة إذ دق الباب فلم يجب أحد . دق ثانية وثالثة وعاشرة فلم يظفر سوى بصدى الدقات. لعب الفأر في عبه ، وخاف على الطفلين من السوء ، عندها أخرج مفتاحه القديم من جيب بنطاله . أدخله في ثقب الباب فانفتح ثم اندفع إلى الحجرة التي يعرفها تمام المعرفة . وجدها نائمة ، والطفلين عن يمين وشمال . رأى شيئا من فتنتها التي طمرتها الألفة . عارية الساقين وجدها. مد يده وغطاها. قبل أن ينصرف فتحت عينيها مستغربة . فوجئت به .
قبل أن تصرخ فيه مستنكرة تراجع خطوتين واقسم بأيمان المسلمين أنه كان ينوي إحضار كتاب من الصالة ، وأنها لم تستجب لطرقاته المتوالية . هزت رأسها بمعنى أنها تصدقه ، لحظتها تقدم خطوة ، وجثا على ركبتيه فقبل الولدين النائمين .
يبدو أنه نسى نفسه فقد أتبع ذلك بأن أمسك يدها وقبلها ، وهي المحرمة عليه شرعا بعد الطلاق.
سحبت يدها برفق ، واعتذر لها أنه لم يقصد . سألته بعينيها إن كان ممكنا أن يعيد المياه لمجاريها . هز رأسه أن كل شيء قابل للإصلاح .
في تلك الليلة بالذات ، وبعد أن رجع من عند المأذون ناما سويا على نفس السرير بذات الملابس المبهدلة التي كانا يرتديانها قبل ردها لعصمته . كل ما هناك أنها أخرجت زجاجة عطر " الأفعى " بقنينتها الذهبية وغلافها الزجاجي الشفاف ؛ فرشت منها ما بدد هواء الغرفة الثقيل ، حينها مالت وحملت الطفلين النائمين إلى الحجرة المجاورة ، وأحكمت فوقهما الغطاء.
كتبت هذه النصوص فجر الأحد 3/2/ 2008