" عرفتها وأنا فى رحلتى الدراسية إلى عاصمة النور, أظنها كانت النور, كنت منطلقاً فى خيالات أملتها علىّ دوافع عدة, ومجتاحاً لما أعرفه من ثوابت وما غرسه الأهل من مفردات, كنت فاتحاً صدرى - وقميصى مسايرة للعصر - ومقبلاً على كل شىء وأى شىء بلا تعفف أو اكتفاء...."
توقفت عن الكتابة وتخيلت صديقى الجديد, فكل أبطال قصصى هم أصدقاء ابتدعهم وألتقيهم هنا على أوراقى البيضاء, تخيلته فتياً , شعره الأسود المتموج يمتد فى استرسال كسائر شباب جيل السبعينيات, صبغته فرشاته بألوانها فتماوج فى عينيه قوس قزح, قميصه الأبيض الضيق, وبنطاله الذى يتسع كلما هبطت العين إلى الأرض يصنعان منه صورة أحببتها لصديقى الفنان المتمرد.
نفثت بعضاً من دخان اختزنته فى صدرى, وشغلنى أمر صديقى عن كل ما سواه, وعاودت الكتابة ....
" اعترف أنى كنت ثائراً لدرجة الحمق على كل شىء, أقنعتنى بلدى أن البقاء فيها مستحيل, قرأت كثيراً فى فلسفات أفسدت براءة منطقى, فتطلعت إلى جيل سابق يحكم إرادتى فى البيت والدراسة والسياسة بكثير من الازدراء, وتركت الهوة تتسع حتى صارت تشكل (البحر الأبيض) الذى فصلنى عنهم, حملت فى حقائبى سجائرى وكتبى ولوحات لم تكتمل وألقيت بهم فى جُب صغير آوانى بعد طول تجوال.
أما هى , تلك التى أدّعى أنى عرفتها , فكانت تجاورنى فى المقهى الذى اتخذ ركناً منه مرسمى, لم نتحادث لشهور , لم أسأل عنها أحد, فقد كنت أشك بكونها حقيقة, وعندما بدأنا الحديث سلبتنى لكنتها الفرنسية كل إرادتى , لكنى كنت أبثها كلمات بلغتى الأم شعراً وزجلاً فتبتسم, عرفت سر الابتسامة -التى ظننتها مجاملة- فيما بعد, فقد هتفت يوماً بعد أن رأت إحدى لوحاتى بكلمة إعجاب عربية مغرقة فى المحلية(!!!), تناسيت بإرادتى خديعتها الأولى وغرقت -بإرادتى أيضاً- فى عينيها الزرقاوين وهما الشىء الوحيد الذى ورثته عن أمها الفرنسية بينما بقيتها تعلن عن عربيتها فى صراحة بالغة"
أبله !! مغرق فى الرومانسية الحمقاء, وأنا أفكر فيه كضحية فقط ,أُعدّه على أوراقى البيضاء لمزيد من الخداع, لماذا ترانى فعلت ذلك؟ لماذا أحمّل حواء كالعادة ذنب الخروج من الجنة؟
" لم أهتم كثيراً بالسؤال عن أصولها المتشابكة, فتكفينى هذه الملامح المختلطة لتدلنى وتترك لخيالى العنان, لكنها لم تكن لتترك مناسبة إلا وتسابقت الأسئلة على شفتيها عن كل شىء, وكنت أجيب بصدر رحب كعادتى, لكنى تريثت قليلاً عندما غرق سؤالها فى التعجب عن أحوال بلدنا الأم , وكيف يمكن أن تكون فى حالة حرب وتدفع لى تكاليف دراستى فى الفنون التى يعتبرها العرب ترفاً قياساً بالعلوم التطبيقية, وتابعت سائلة : هل حقاً يقدّر العرب الفنون؟
انتبهت لكونها تسأل عن العرب من المنطلق الغربى المستهين وحاصرنى تفكير داخلى عن مدى انتمائها, كيف أمكنها رغم كل شىء أن تتحدث عن العرب كأنها ليست منهم؟ كيف ابتعدت إلى القدر الذى تسألنى فيه عن مشاعر امة كاملة تجاه أمر ما؟
تطلعت إلى عينيها الزرقاوين, ولم أجب .. "
أين الخديعة فى كل هذا؟ هل يمكننى الاستمرار فى نسج خيوط هذه القصة اللعينة؟ هل أدع الفنان يقاوم السحر أم .. يمارسه؟
أعددت قهوتى وتلهيت بالنظر إلى مرأى النيل من شرفتى مساءاً , ورأيتها تمشى على صفحته السوداء فى رداء من (نور), تمد يدها إلى كأنها تستجدينى, أغمضت عينى واستدرت إلى أوراقى وكتبت..
"أحسست بأمرين يتنازعانى , الأول رغبتى فى الدفاع عن نشأتى وقومى وسنين عمرى السابقة, والثانى هو تلك الدوافع التى جعلتنى أثور وأنتقد وأهرب من كل ما سبق , أحسست أن النور لم يعد حلماً , امتدت يدى لتلمس خصلات شعرها الأسود, فرأيت فى عينيها الزرقاوين حياءاً لم أره منذ سجلت فى جواز سفرى كلمة الرحيل, أو هكذا خُيل لى.
لم تشغلنى الدراسة أو العمل أو الفن عن الغرق فيها ومحاولة فهم كل المجهول بتعبيراتها ولفتاتها ,كنت أفلاطونياً فى عشقى لها للدرجة التى جعلتها حلماً دائما فى خيالاتى, لم أقاومها رغم شكى بأحيان كثيرة فى كونها حقيقة, لذا .. عندما أرسل الأهل لى بصورة ابنة عمى , ذهبت إلى نور وطلبتها للزواج .."
نظرت لوجهى فى مرآة بحجرة مكتبى فوجدته محتقناً, شعرت بذات الاحتقان فى جوفى, ذهبت إلى الشرفة وعبأت صدرى بهواء المساء الناعم, وتحاشيت النظر إلى صفحةالنيل السوداء.
" تركتها نائمة فى فراشنا الأول , وهربت.
أطبقت على كيانى جدران حجرتنا الصغيرة, وتداخلت فى مخيلتى صور أكرهتنى على مزيد من الهروب, خرجت إلى الطريق مصطدماً بكل شىء, بالسكارى المترنحين, بأيادى الشحاذين, سرت إلى حيث لا أعرف وأنا أفكر بلمحة النور التى احتواها فؤادى وانطفأت, إنها لم تفسر الأمر وكأنه لا يستوجب تفسيراً , وكأن على أمثالى من البلهاء أن يبتلعوا خديعتهم فى صمت.
غرقت فى الرثاء لنفسى وحالى , ولم أدع ذلك الشاب المتحرر المعتنق لكل مفردات التطور يغزو عقلى أو يجد لها عذراً, كيف سلبتنى حقى؟ بل كيف تدنّت لتصبح مثل كل الساقطات هنا؟
ساءلت نفسى .. لماذا خدعتنى؟ أو بالأحرى : هل حقاً خدعتنى؟ لماذا أريد الإحساس بطهارة أمى فى كل النساء؟ لماذا لم أتسلم عند الحدود صكوك التحرر اللازمة لأنسى بها معتقداتى وثوابتى؟
لم أعد إليها, غادرت المكان تاركاً لوحة أخيرة لم تكتمل ...."
نظرت للأوراق التى سطرتها, و فتحت أدراج مكتبى , وأخرجت صوراً تلونت حوافها باللون الأصفر, وتطلعت إلى صورة ال(نور ) وهى تعانقنى شاباً من جيل السبعينيات, فتياً , قميصى الأبيض الضيق وبنطالى الذى يتسع كلما هبطت العين إلى الأرض يصنعان منى صورة تمنيت لو امتلكت القدرة على مطالعتها .. كل حين.