"حالة حصار" هي قصيدة مطولة ألفها محمود درويش في يناير 2002، حيث تزامن مكوثه في مدينة رام الله مع الحصار الذي ضربته القوات الإسرائيلية على المدينة.
والقصيدة عبارة عن حوار بين الشاعر المحاصَر ومحاصِريه. وعبر أسلوب ينمّ عن نظرة جديدة وسخرية مريرة، لا يتورع عن توجيه النقد اللاذع للإسرائيليين ولأبناء شعبه أيضا.
****
هنا عند مُنْحَدَرات التلال أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ
وما يفعل العاطلون عن العمل
نُرَبِّي الأملْ
بلادٌ علي أُهْبَةِ الفجر صرنا أَقلَّ ذكاءً
لأَنَا نُحَمْلِقُ في ساعة النصر
لا لَيْلَ في ليلنا المتلألئ بالمدفعيَة
أَعداؤنا يسهرون وأَعداؤنا يُشْعِلون لنا النورَ
في حلكة الأَقبية
هنا، بعد أَشعار أَيّوبَ لم ننتظر أَحداً
سيمتدُّ هذا الحصارُ إلى أن نعلِم أَعداءنا
نماذجَ من شِعْرنا الجاهليّ
السماءُ رصاصيّةٌ في الضُحى
بُرْتقاليَةٌ في الليالي وأَمَا القلوبُ ..
فظلَتْ حياديَةً مثلَ ورد السياجْ
هنا .. لا أَنا
هنا .. يتذكَرُ آدَمُ صَلْصَالَهُ
يقولُ على حافَة الموت ..
لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ
حُرٌّ أَنا قرب حريتي .. وغدي في يدي
سوف أَدخُلُ عمَا قليلٍ حياتي
وأولَدُ حُرّاً بلا أَبَوَيْن
وأختارُ لاسمي حروفاً من اللازوردْ
في الحصار .. تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُرِ أَوَّلها ونسيانِ آخرِها
هنا .. عند مُرْتَفَعات الدُخان .. على دَرَج البيت
لا وَقْتَ للوقت
نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلى الله ننسي الأَلمْ
الألمْ هُوَ ..
أن لا تعلِق سيِدةُ البيت حَبْلَ الغسيل صباحاً ..
وأنْ تكتفي بنظافة هذا العَلَمْ
لا صدىً هوميريٌّ لشيءٍ هنا
فالأساطيرُ تطرق أبوابنا حين نحتاجها
لا صدىً هوميريّ لشيء. هنا جنرالٌ
يُنَقِّبُ عن دَوْلَةٍ نائمةْ
تحت أَنقاض طُرْوَادَةَ القادمةْ
يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ بمنظار دبّابةٍ
نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسة
أَيُّها الواقفون على العَتَبات ادخُلُوا
واشربوا معنا القهوةَ العربيَةَ
فقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلنا
أَيها الواقفون على عتبات البيوت
اُخرجوا من صباحاتنا
نطمئنَّ إلى أَننا بَشَرٌ مثلكُمْ
نَجِدُ الوقتَ للتسليةْ
نلعبُ النردَ أَو نَتَصَفّح أَخبارَنا
في جرائدِ أَمسِ الجريحِ
ونقرأ زاويةَ الحظِّ في عامِ
أَلفينِ واثنينِ تبتسم الكاميرا
لمواليد بُرْجِ الحصار
كُلَّما جاءني الأمسُ .. قلت له..
ليس موعدُنا اليومَ .. فلتبتعدْ ..
وتعالَ غداً ..
أُفكِر من دون جدوى
بماذا يُفَكِر مَنْ هُوَ مثلي هُنَاكَ
على قمَة التلّ منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ
وفي هذه اللحظة العابرةْ؟
فتوجعنُي الخاطرةْ
وتنتعشُ الذاكرةْ
عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ
بيضاءَ بيضاءَ تغسِلُ خَدَّ السماء
بأجنحةٍ حُرَّةٍ، تستعيدُ البهاءَ وملكيَةَ
الجوِّ واللَهْو .. أَعلى وأَعلى تطيرُ ..
الحماماتُ بيضاءَ بيضاءَ .. ليت السماءَ
حقيقيّةٌ.. قال لي رَجَلٌ عابرٌ بين قنبلتين
الوميضُ البصيرةُ والبرقُ قَيْدَ التَشَابُهِ
عمَّا قليلٍ سأعرفُ إن كان هذا هو الوحيُ
أو يعرف الأصدقاءُ الحميمون أنَّ القصيدةَ
مَرَتْ.. وأَوْدَتْ بشاعرها
إلى ناقد لا تُفسِر كلامي
بملعَقةِ الشايِ أَو بفخِاخ الطيور
يحاصرني في المنام كلامي
كلامي الذي لم أَقُلْهُ
ويكتبني ثم يتركني باحثاً عن بقايا منامي
نحبُّ الحياةَ غداً
عندما يَصِلُ الغَدُ سوف نحب الحياة
كما هي .. عاديّةً ماكرةْ
رماديّة أَو مُلوَنة
قال لي كاتبٌ ساخرٌ ..
لو عرفتُ النهاية .. منذ البدايةَ
لم يَبْقَ لي عَمَلٌ في اللٌغَةْ
إلي قاتلٍ لو تأمَلْتَ وَجْهَ الضحيّةْ
وفكَرتَ .. كُنْتَ تذكَرْتَ أُمَك في غُرْفَةِ
الغازِ كُنْتَ تحرَرتَ من حكمة البندقيَةْ
وغيَرتَ رأيك ما هكذا تُسْتَعادُ الهُويَةْ..