ينبه القرآن المجيد إلى عملية استهلاك المصطلح ، ويضرب اليهود مثالاً واقعياً مخافة أن نقلدهم ، قال جل شأنه [ مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ] [النساء : 46] وعندما استخدموا تلك الآلية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي حوارهم فيما بينهم :[ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ][النساء : 46] .وتاريخ المسلمين يطروح فرقاً انحرفت عن جوهر الدين ومفاهيم الشريعة ، ففي حين سمى المعتزلة أنفسهم : أهل العدل والتوحيد أطلق أئمة السنة عليهم [ أهل العقل ] في مقابل [ أهل النقل ] ضمن تلاعب لفظي مخيف .. وفي أيامنا هذه نلحظ الخطاب وهو يقوم بتقسيم الإسلام إلى : [ عقلي ونقلي ، وسلفي وعصري ، وأرثوذكسي وعلماني ، ورسمي وشعبي ، ومدرسي (اسكولاستيكي) وحداثي ، معتدل وأصولي وجميعها ألفاظ تستهلك الحقيقة ويبتعد فيها اللفظ عن المعنى ضمن تدرجات مفاهيمية مستحدثة .
ثم جاء من يستخدم مناهج قراءة النصوص الادبية [ اللغوية ] في قراءة النص المقدس [ القرآن والسنة ] في قراءة - يسميها زوراً - بأنها عصرية/ تفكيكية/ تنويرية/ عقلانية / تثويرية . ليحدثوننا تارة عن (ألسنة) النص المقدس وتارة عن [ أنسنة ] الشريعة على أنه نص بشري قابل للنقد والقبول والرد ، وقراءته بعين : (سوسير ، وإلتوسير ،ورولان بارت ، وميشيل فوكو) جاعلين القرآن والسنة نصوصاً لا تختلف دراسته عن دراسة أي رواية أو قصيدة !!
وعند التحقق من كلمة [ مصطلح ] وهي تطلق اليوم ليراد بها المعنى الذي تعارف عليه الناس ، واتفقوا عليه في استعمالهم اللغوي الخاص ، أو في أعرافهم الاجتماعية ، وعاداتهم السائرة .وتتشكل ضمن ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية متجددة لعلها تُحَمّل على معنىً غير الذي وضعت له في أصل اللغة التي تنتمي إليها ، حيث يشيع هذا المعنى الجديد بين الناس ويصبح الاستعمال اليومي مبرراً كي نجعله مألوفاً وبالتالي قد يُنسى معه ذلك المعنى اللغوي الأساس وهذا المعنى الجديد هو ما نقصده عندما نقول : المعنى الاصطلاحي .وحينما درست في كلية الهندسة كنا نخضع لمصطلحات فنية Terminology مقننة لايحيد عنها المتعامل في ذاك الفضاء . ولان اللغة كائن حي ينمو وقد يموت نلحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أشار إلى تغيير الدلالة وتحول الأسماء عن المسميات ففي سنن ابن ماجه مرفوعاً : (لَيشربنّ أقوام من أمتي الخمر ، يسمونها بغير اسمها ... ) . وهنا نكتشف خطورة منهج من تحوير اللفظ بغرض عكس المفاهيم فتسمية البنوك الربوية بشعار [ الإسلامية ] كما في بعض بنوكنا العراقية وتسمية الدولة الثيوقراطية بالــ [ الإسلامية ] كما في إيران اليوم .
وأنا لا أتحدث عن ألألفاظ ذات الدلالات سواء الحقيقية أوالمجازية ، ولا زاوية نظر المكلف [ المتلقي بلغة اليوم ] من جهة الوضع اللغوي ، والدلالة
الشرعية والدلالة الاصطلاحية ، والدلالة المعرفية ، فالدلالة اللغوية للكلمة تدور بين النص والظاهر والمشترك والمجمل والمبهم .. والعام والخاص والمفهوم والمنطوق ، والفحوى والإشارة . مما هو شائع في مصطلحات علمي [ أصول الفقه وعلم مصطلح الحديث ] بل وسائر علوم القرآن .
يهدينا الإمام الجويني في كتابه (البرهان في أصول الفقه) فيقول : حقٌ على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه ، وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن ، وبحقيقته وحده ... والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلّمه مع حظّ من العلم الجُمْلي بالعلم الذي يحاول الخوض فيه .
ويقول ابن حزم في مقدمات (الإحكام) عن تحديد المصطلح وخطورته : (هذا باب خلّط فيه كثير ممن تكلم في معانيه ، وشبك بين المعاني ، وأوقع الأسماء على
غير مسمياتها ، ومزج بين الحق والباطل ، فكثر لذلك الشغب والالتباس ، وعظمت المضرّة ، وخفيت الحقائق)
اليوم نقف مع أزمة المصطلح ضمن الخطاب الدعوي وهذه كتبنا وفضائياتنا ومنتدياتنا تعج بالكلمات التي تعددت معانيها ضمن تعدد القراءات مثل : (أيديولوجية ، وديمقراطية ، ودولة مدنية ، وحكم الشريعة ، والحاكمية ) وكذلك تعج بالقضايا المختلقة كقضية (التبعية الثقافية) وقضية (الثوابت والمتغيرات) وقضية ( التراث والمعاصرة ) وهي قضايا مصيرية تخص مستقبلنا اجتهد علماؤنا في تحقيقها - جزاهم الله خيراً - ولكن المخيف تناولها ضمن لعبة المصطلحات المنحازة التي تحاول صبغ خطاب الشارع بغير صبغته ، باستخدام لغة مراوغة بعيدة عن ربط [ اللفظ بالمعنى ] حتى شاعت قراءات متمردة [ آركون مثلاً ] أو قراءة متطاولة متجاوزة [ جمال البنا مثلاً ] ..
وللخروج من المأزق علينا توصيف [ الميزان ] الذي يجعلنا نفهم اللغة ونميزها عن لغة الخطاب المنحاز وذلك بفهم مقصد ومراد الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في مطابقة دلالة اللفظ على المعنى وليس دفع النص المقدس وحشره للخضوع لمنهاج غريب عنه فنحن لانبحث في النص عن منفعة براجماتية ذرائعية بل نبحث عن منفعة تخص النوع الإنساني كون القرآن كلام الله لكل البشر والرسول رسول الله لكل الناس والشريعة هي التي تقر العدل لجميع خلق الله من العصفور فوق الأشجار إلى المستضعفين داخل السجون .. شريعة تقر المنفعة إذ تنصف الظالم عن المظلوم .. لانفعية ترتكز على الأنانية وتبرير الاستعداء.
علينا اليوم : الخروج من أزمة المصطلح !!