حدَّثنا بليدُ ابنُ أنوكْ : ( أنه رأى في طريقه بائسًا محتبيًا , ومسندًا ظهره على أحدِ الدكاكين وعلى ملامحه غيمٌ من الهمِّ ويكسوهُ ثوبٌ من الغمِّ , فزلفَ إليه يواسيهِ كمجرَّدِ فضفضةٌ وشقفةٌ فإذْ بذاك البائسَ يحاكيه : أنه كان ذاتَ يومٍ في بهوٍ من العيشِ وحلاوةٍ من الطيشِ , يمشي في طريقهِ متبخترًا يدهسُ فقيرًا , ويُبكي صغيرًا, وينهبُ كريمًا , ويسجنُ من كان شاكيًا أو معاديًا , ولكن دوامُ الحالِ من المحالِ , فقد هبت ثورةُ الشباب وارتفعت ترانيمُ الرَّبابِ في ساحاتٍ يباب تقابلهم أنياب الذئابِ من القتلةِ الباغين ليحيلونها إلى سلالم من الجثث وأكواخٍ من الرؤوسِ وأشواكٍ من الضروس تُدمي كلَّ سوسٍ ينخرُ برج الوطن العاجي ويهزأُ بالحرِّ الراقيِّ ، حتى غدا من كان على العرشِ مبجَّلاً , وجلاً ينتظرُ رفسةً من خدمهِ ولكمةً من رغيفِ الخبزِ الذي سجنه ومنعه عن المحتاجين فجنى عليه بالتعفنِ .
فلن يأمنَ الآنَ والله لن يأمن , كيف وهو الجاني الذي أماتَ رعيتهِ على قوارع الطرق , واستبدَّ الأمرُ إلى قتل حلمِ الأطفالِ وشنق دموعِ النساء ولكن آن الأوان لأنْ يعبس الحقَّ ويشدُّ شعرَ الباطلِ للخلف ، ويُلقمه من بقايا العلف حتى يصبح هزيلا تَلِف غيرَ قابلٍ للاستخدام .
وكان في الاشتباكاتِ الداميةِ بين جند الأميرِ المزعومين وأبطالُ الثورة فتيةٌ كفتيةِ الكهفِ الذين صبروا وصمدوا ودعوا إلى الخيرِ وجاهدوا حتى يأتيَ نصرُ الله يبطشُ بالظلمِ وأهله ويقطعُ مناخيرَ الجبابرةِ التي زفرتْ بريحٍ ساخنة زعمًا منها أنها ستهبُّ على الضعفاء وتُرعبهم وماعلموا أنها سترتدُّ عليهم فهمُ الجبناءُ الأعكال الذين هضموا الحقوق ونقضوا العهود وكتبوا صكوك العقوق , فلوَّأ اللهُ بهم , وسخَّر عليهم من لايخشونهم فجعلوهم كصفرٍ على الشمالِ خارج حدود الخارطة يقبعون في هامشِ الحياة ويعانون حالاتٍ مرضيةٍ من الانفصامِ والعظمةِ والجنونِ وهاهم يرزحون تحتَ نيرانِ الرزايا وتلتهمهم النكبات , خالوا أنَّ البطولة هي وسامةٌ وخيل عربيٌّ أصيلٌ تبتلعك النشوة من صهيله , وسيفٌ معدنيٌ مزوَّقٌ تمسكه أيدي حثالة راقصين قد شوهوه بمعاني الطربِ والطبول التي زعموها من المرجلةِ .
ولكنْ بزغَتْ شمسُ الحقيقة وظهر الباسلُ الفذَّ من خلف ركامِ الضبابِ ..!
شابٌّ بمظهرٍ قرويٍّ يتوكأ على عصا يهشُّ بها على غنمه تنفحُ منه معاني الرجولةِ والوفاء وعلى سيماه ارتسمتْ أماراتُ الحكمةِ يفيضُ وجهه بإشراقةٍ بعثتْ بها مشاعرُ قلبه الدافقة لتلبسه عباءة الصدقِ وتحيطهُ هالةٌ من نور الإيمانِ العميقِ بمعاني الحياة (العدل ، الصبر ، البؤس ، القوة ، التحمل ، الشقاء ، القناعة والرضا ) وعيناه تُدلعانِ بريقا نافذاً يخترقُ عيني الأفاك الذي زعم البطولةِ ليسقط من على صهوة حصانه المدلَّل , هِمُّ بقتل نفسه بسيفه إلا أنَّ ذاك الأشعث الأغبر يعرف الشهامة حق المعرفة ويسلُّ السيفِ من يد الأمير المتأوه شفقة عليه , حينها صفَّق لإنسانيته جماهير الثورة وتوجوه بميثاق العدل والحفاظ على الرعية .
انتهى من كلامه وقد فرَّت مني الشفقة ونطقتُ بحنقٍ : يبقى الكلب كلبا في جميع أحواله ، فلتكتفي بلحس بقايا العظام, وإن لم ترفع أنخاب حلمك عن استرداد العرش فسألوي رقبتك ورقاب أصحاب العقول الضيقة والأفكار المسمَّمة , فقد كانوا رؤوفين جدا معاشر البائسين وضائعي الأحلام بك واكتفوا بعقاب الله الذي ألبسك اليوم ثوب الذل والمهانة )
بقلم / براءة الجودي
[ النظرة الثاقبة ]