FONT="verdana"]افتح هذه النافذة...فهلموا ...والعنوان يغني عن المقال[/FONT]
وبسم الله نبدأ
قال أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد : دخلت فِي حداثتي أَنا وصديق لي من أهل الْأَدَب إِلَى بعض الديارات لنَنْظُر إِلَى مجانين وصفوا لنا فِيهِ،
فَرَأَيْت مِنْهُم عجائب حَتَّى انتهينا إِلَى شَاب جَالس حجرَة مِنْهُم نظيف الْوَجْه وَالثيَاب على حَصِير نظيف بِيَدِهِ مرْآة ومشط وَهُوَ ينظر فِي الْمرْآة ويسرح لحيته
فَقلت مَا يقعدك هَا هُنَا وَأَنت مباين لهَؤُلَاء فَرفع طرفا وأمال آخر وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
اللَّه يعلم أنني كمد ... لَا أَسْتَطِيع أبث مَا أجد
نفسان لي نفس تقسمها ... بلد وَأُخْرَى حازها بلد
وَإِذا المقيمة لَيْسَ ينفعها ... صَبر وَلَيْسَ لأختها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تَجِد الَّذِي أجد
فَقلت لَهُ أَرَاك عَاشِقًا قَالَ أجل، قلت لمن؟ قَالَ إِنَّك لسؤول قلت محسن إِن أخْبرت؟
قَالَ إِن أبي عقد لي على ابْنة عَم لي نِكَاحا فَتوفي قبل أَن أزفها وَخلف مَالا عَظِيما فَقبض عمي على جَمِيع المَال وحبسني فِي هَذَا الدَّيْر وَزعم أَنِّي مَجْنُون
وقيم الدَّيْر فِي خلال ذَلِك يَقُولُ لنا احذروه فَإِنَّهُ الْآن يتَغَيَّر.
ثمَّ قَالَ لي بِاللَّه أَنْشدني شَيْئا فَأَنِّي أَظُنك من أهل الْأَدَب فَقلت لرفيقي أنْشدهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قبلت فاها على خوف مخالسة ... كقابس النَّار لم يشْعر من الْعجل
مَاذَا على رصد فِي الدَّار لَو غفلوا ... عني فَقَبلتهَا عشرا على مهل
غضي جفونك عني وانظري أمما ... فَإِنَّمَا افتضح العشاق بالمقل
فَقَالَ لي أَبُو من أَنْت جعلت فدَاك؟ فَقلت أَبُو الْعَبَّاس.
قَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس أَنا وَهَذَا الْفَتى فِي طرفين هَذَا مجاور من يهواه مُسْتَقْبل لما يَنَالهُ مِنْهُ، وَأَنا ناء مقصي
فبالله أَنْشدني أَنْت شَيْئا. فَلم يحضرني فِي الْوَقْت غير قَول ابْن أبي ربيعَة:
قَالَت سكينَة والدموع ذوارف ... تجْرِي على الْخَدين والجلباب
لَيْت المغيري الَّذِي لم أجزه ... فِيمَا أَطَالَ تصبري وطلابي
كَانَت ترد لنا المنى أيامنا ... إِذْ لَا ألام على هوى وتصاب
خبرت مَا قَالَت فَبت كَأَنَّمَا ... يَرْمِي الحشا بصوائب النشاب
أسكين مَا مَاء الْفُرَات وطيبه ... مني على ظمأ وَحب شراب
بألذ مِنْك وَإِن نأيت وقلما ... يرْعَى النِّسَاء أَمَانَة الغياب
ثمَّ قلت لَهُ أنشدنا أَنْت شَيْئا آخر فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أبن لي أَيهَا الطلل ... عَن الأحباب مَا فعلوا
ترى سَارُوا ترى نزلُوا ... بِأَرْض الشَّام أَو رحلوا
فَقَالَ لَهُ رفيقي مجونا وَلَعِبًا. مَاتُوا، فَقَالَ وَيلك مَاتُوا؟
قَالَ نعم مَاتُوا فاضطرب واحمرت عَيناهُ فَجعل يضْرب بِرَأْسِهِ الأَرْض وَيَقُول
وَيلك مَاتُوا حَتَّى هالنا أمره وانصرفنا عَنهُ. ثمَّ عدنا بعد أَيَّام فسألنا عَنهُ صَاحب الدَّيْر فَقَالَ مَا زَالَت تِلْكَ حَاله إِلَى أَن مَاتَ.