أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: قصة فكرية نقدية

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2003
    المشاركات : 173
    المواضيع : 58
    الردود : 173
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي قصة فكرية نقدية

    خدعة الرحلات البطولية والنهايات السعيدة
    قصة فكرية نقدية




    إن بطل القصة أمريكي تائه، وآخر لحظة رأته فيها والدلته عندما كان يلعق الآيسكريم باحتفالية وهو يتبادل حديثا ودّيّا مع شرطيّ أسود، ركزوا معي على كلمة أسود، كان الحديث يطول من بعيد وهي ترى الحركات والسكنات ولا تسمع ما يقال، ويبدو أنّ الصيف كان نهماً جدّا فلعقَتْ حرارته الآيسكريم أثناء انهماك الولد في الحوار مع الرجل الذي أمامه، هكذا كانت تروي حكايتها البئيسة، ثم تقول: واختفى بعدها وكأن الأرض ابتلعته. اعتقدتْ أنّه اختُطف بتدبير حكوميّ، وتذكُرُ جيداً أنها تفانت في البحث عن الشرطي الذي كان يقف معه على ذلك الرصيف فلم يأت بحثها بنتيجة. كما اعترفت أن ذلك آلمها فأرادت أن تكره جنس السود جميعاً لهذا السبب. احتمالها الآخر الوحيد، الذي تتقطع نياطها عند تمثّله أمامها هو أنّ عصابةً خطفت ضناها لغرض ما وقضت عليه.
    وبقيت تسلّي نفسها وتطعم ماسوشيّتها بتغذية ذكرياتها عنه:
    صفاته الجسدية مثلا، تعالوا معنا لنرى كيف تفكّر أمريكيّة فقدت ابنها:
    (كان نحيلا يحبّ البيسبول، كان نحول ساقيه وفخذيه مثل نحول مرضى السكّريّ، وكانت له رشاقة سحليةٍ في كامل صحّتها، صوته كان يخرج منغوماً ولذيذا كلحن المزمار، وكان مغويا للفتيات بلدانة عوده النضير، يحبّ الموسيقى الشرقيّة ويتصلّب في حبّها...).
    هكذا تسترسل في الذكرى وتتمتع بتعذيب نفسها بهذه الطريقة وهي تقلّب فكرها بين احتمال اختطاف ابنها من قِبل الحكومة أو اللصوص. بيد أنّ ما حدث حقّا لا هذا ولا ذاك؛ الذي حدث أنّ الفتى اكتشف الحقيقة التي بحث عنها طيلة سنين شبابه القليلة عند هذا الشرطي الأسود. أعزّائي القراء، عليكم الآن أن تكونوا يقظين لتتابعوا تحوّلات الحبكة السريعة التي تبزغ بلا مقدمات:
    أسفر لقاؤه مع الشرطي الأسود عن اعتناقه لدين الإسلام على الفور، واختفى بعدها خمسة عشر عاما لم يره خلالها أحد قطّ، وما نعلمه نحن أنّه عبر شرقا إلى أفريقية. لبس الثياب المغربية وجال في الصحراء الموريتانية، وركب الجمال ورأى ظلّ جذعه الدقيق يتراقص على الأرض، وعرف النجوم المهمّة نجمة نجمة، ونطق التاء مدغومة بالسين والفاء مشبعة بالهواء والظاء والذال كما كان ينطقها أجدادي هناك؛ ثم حفظ المتون وتعلّم حلب الأغنام ورعاها في صحبة أسياده ومعلميه حتى أنهى ثمانية أعوام، وهي الفترة التي أمضاها النبيّ موسى أجيرا لدى أخيه النبي شعيب. ثم -وفي نزوة فجائية- عاوده الشوق إلى المدُن، ولكنّ ذلك الشوق لم يعِدْه إلى وطنه، لأنّه ظلّ شوقا غامضا، ليس إلى العائلة والبيئة الأمريكية، بل إلى مظاهر ومناظر حياتية قرية منه؛ لقد تلبّسه اشتياقٌ وظمأٌ عارمٌ إلى لبس البنطال والقميص وتجرّع المشروبات الغازيّة والتمشي تحت أضواء النيون وبين زحامات السيارات ومناظر الآثار وأطلال المغازي البائدة. وهكذا ظنّ الفتى أنه التقط طرف خيط لاشتياقه الحقيقي، ولم يتحْ للتسويف أن يحول بينه وبين تحقيق رغبة شكلية كهذه، وهكذا اتخذ قراره:
    ودّع معلّميه في صبيحة مشهودة، وتعمّق في الشرق قاصدا إحدى مدنه العريقة، لنقل إنها القاهرة مثلاً، في غضون ساعات قليلة أروى اشتياقه إلى المشارب والملابس والأضواء والمناظر؛ ودهمه الفتور. حاول تبديده بمشاهدة المباريات بين الفرق الكروية التي تدور بينها رحى المنافسة، وعرّض أذنه التي صقلتها الصحراء الموريتانية لأبواق السيارات وشتائم السائقين، وإلحاح باعة الطريق، ونداءات المغريات في الزوايا.
    اجتذبه الجامع القديم والمشايخ المتربّعون والدراويش المقرفصون، أحسّ أن هذا ما يريده وأنه النتيجة الطبيعيّة لإرهاصات العقد الفائت من شبابه. وسرعان ما تبدل، فخلع اللبس المدني وارتدى الجلباب ووضع عمّة الأزهريّين، وأصبح يدور ويتجول حول المسجد خمسين مرّة في كلّ عشرة أيّام، واستمرت به الحال حتى رأى في التلفزيون كيف ألقى المتظاهرون المسيحيون في أمريكا بالبيض والطماطم وكلّ المأكولات الرخيصة في وجه رئيس هذا البلد الذي يستضيفه، رأى الرئيس العربيّ يتعرض للإهانة بسبب الحماس الديني، وعلى إثر ذلك دهمته حماسة شديدة لدينه الجديد، فخلع على نفسه صفة الداعية الجديد بعدما كان متتلمذاً.
    هانحن نتغيّر عمّا كنا عليه، ولا نستطيع أن نتجاهل النظرية القائلة بأنّ حركة جناح طائرٍ صغير ضائع قد تهيّئ لإعصار جبّار. ازداد انكبابه على التراث الشرقي وانغلق كالمعتكفين عن الخارج، لزمَ المسجد وكبرتْ عمامته وازدادت بياضا حتّى بدأ يغاير سلوك أئمّته ويناطحهم بالمعرفة فينقلبون عنه صاغرين، فكر بعض المشايخ أن يكيدو له، ولكن تفكيرهم تقهقر، لأنّ تلميذهم المذهل له عروق وأصول غربيّة لا يُستهان بالتحرّش بها.
    وذات مرّة هبط إمام الجامع من سيّارته، وفتح سائقه صندوقها الخلفي فانقضّ باعة السوق "الغلابة" بالأغراض الغذائيّة وبالهدايا على صندوق السيارة فملؤوه بها، وفسّر الشابّ ذلك بأنّه استغلال من الإمام لسذاجة هؤلاء المساكين، وتصدى له وأهانه، سكت الإمام عنها وصبّر نفسه على مضض. ثم في مرّة تالية دخل إلى المسجد أحد المصلّين المتبركين بالإمام، وعلى ظهره سحّارة ملأى بالخبز الحار ينوي إهداءها للولي الصالح، وتسلل من خلفه درويش جائع ومدّ يده ساحبا خبزة طريّة، فاحتدم خصام بالأيدي لم يوقفه إلا ستر الرب. عندها اختفى الشابّ من المسجد ومن القاهرة ومن الدولة بكاملها، فاستراح المصلّون وجمهور الإمام وظنّوها بركة من بركات سيّدهم فازدادوا تعظيما له وانهمروا عليه بسيل من الهدايا الغذائية حتى أترع صندوق سيارته بها.
    عبر الفتى الأمريكي بحقيبة خفيفة من طريق البرّ، إلى الشام، وكله اشتياق لرؤية نهر بردى والروافد الصغيرة التي سمع عنها وغذى خياله الخصب بها:
    وقف عليها، وإذا بها قد ركدتْ كلّها أو تكدّرت!
    تعرّف على مجموعة جديدة وقضى ثلاثة أعوام في كنفها، نظم فيها الشعر العربيّ بالطريقة العموديّة القديمة وحفظ المتنبي وأبا العلاء وابن الرومي وعددا من المتون، لكنّ فتور المدينة قتله، وازداد مزاجه كدَراً لمّا أدرك أنّ الحكومة تطارده من أجل عمامته وتشكّ بسبب لونه وجنسيته أنّه عميل لمحتلّ الجولان.
    لجأ إلى الريف هربا من المضايقة، وكاد أن ينخرط مع الرعاة ومشايخ البدو مرة أخرى، لكنه ألفى فيهم ارتيابا أشد، عاد إلى العاصمة ولم يجد ما يغريه بالمكث فيها، لأنه لم يرَ ما يختلف كثيرا في المظهر والجوهر عما هاجر عنه في بلده؛ اللهمّ إلا في الشعارات وفي ازدياد حجم الفساد البيروقراطي هاهنا.
    وفي اللحظة التي آمن فيها بهذا الإدراك طرق باب سفارته التي تلقّته بالأحضان:
    كان ينتظره مندوب قناة فضائية؛ ليصوّر دهشة اللقاء بعد طول الغياب، ومفاجأة العودة بعد اليأس:
    المفاجأة الخاصة بالفتى -الذي أصبح رجلا- أنه وجد من تركهم جميعا أحياء غير ناقصين كأنما تركهم يوم أمس، ونحن ندّعي أن هذا يجري في قصتنا لأننا غير مستعدين للإضافات التراجيديّة المجّانية، كأن يدخل فيقول بغباء: -أين أبي؟
    فتقول أمّه بغباء أشد:
    - أبوك مات يا ولدي، مات.
    ثم يبدأ النحيب وتتحد فرقة الموسيقى على تأزيم اللحظة. لقد وجدهم جميعا باستثناء أبيه، لماذا يا سادتي؟ لأنه ذهب في مشوار قصير وسيعود، هكذا بكلّ برود وغباء.
    أما أمّه التي ظلّت رؤية الآيسكريم طوال السنوات الفائتة تؤدي بها إلى أسى قاتل، فقد حان لها أن تتحرر -على الأقل- من تأثيرات مشاهدات الآيسكريم، بل ربّما ستعتبرها فيما بعد ذكرى بديعة لمأساة انتهت إلى الأبد، ثم إنها لم تنس أن تشكر نفسها وربها -جدّا- لأنها لم تكره السود ولم تسمح لنفسها بالشك في نزاهة حكومتها التي أعادت إليها ابنها، ثمّ إنها لم تعد تحمل ذلك الحقد العميق على جرائم العصابات، وقد ظنّت من قبل أنها أخذت ابنها وغيّبته في خبر كان.
    شرعت في التهام وجبتها بشهيّة بالغة، واستأنفت تحكي أنّ قلبها كان قد اغتسل منذ ليالٍ بحلم جميل:
    رأتْ نفسها تمسك بغصن على رأسه رغوة مجهولة الكنه، وقفزت هذه الرغوة وصارت سحابة، وتناثرت السحابة كتناثر ندف الثلج في كانون الثاني؛ وضحكت هي وجرت كما لم تفعل في طفولتها السحيقة، وهكذا استيقظت وقد اغتسل قلبها.
    كانت تجلس على الأريكة المائلة، مستغرقة في إعادة قراءة مجلة قديمة، عندما سمعت صوته في البدايَة، وبعد ذلك جرى لقاء عاطفي تشاهدونه وتقرؤونه في كل القصص ذات النهايات السعيدة، ولا مزية فيه إلا ما جرى مع أخته:
    ركنت سيارتها على طرف الحديقة، وخرجت بهدوء وهي سارحة في أشغال يومها، وعندما رفعت رأسها رأت رجلا يحتضن أمها على مبعدة غير يسيرة فلم تصدّق عينيها في البداية، لوّحت لها أمها وصاحت، وسمعت الفتى يلهج باسمها، فهمت وصدّقت، سيطرت عليها اللحظة، فلم تستطع أن تدور حول المنطقة الموحلة من حديقة البيت، وتقطع بعد ذلك خمسين مترا لتصل إلى الممشى الممهد، فاضطرّها ذلك –تحت كاميرات التصوير- على الجري ببنطلونها الجديد في الماء والوحل قبل أن تقفز على عنق العائد، الأمر الذي دفع مخرج هذا اللقاء إلى أن يعتبر مصوّره عبقريا تماما برصد هذه اللقطة، وهكذا نصل إلى بر الأمان ونهبط من السفينة التي تسمى خدعة الرحلات البطولية ونهاياتها السعيدة.
    لو استنشقتَ عبير الأسحار لأفاقَ منكَ قلبُكَ المخمور

  2. #2

  3. #3

  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2003
    المشاركات : 173
    المواضيع : 58
    الردود : 173
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    آمل من المشرف، تعديلها من عنوان قصة مترجمة لكاتب مكسيكي إلى : قصة فكرية نقدية، لأن القصة قصتي، وهذا العنوان لا أدري كيف نفذ من بين أصابعي، إنه عنوان لقصة مترجمة نقلتها إلى أحد المنتديات، ولعلي نسخته هنا سهوا، إلى الله المشتكى، فتحملوني والله يحرسكم.

  5. #5
    الصورة الرمزية معاذ الديري شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : خارج المكان
    العمر : 49
    المشاركات : 3,313
    المواضيع : 133
    الردود : 3313
    المعدل اليومي : 0.43

    افتراضي

    هذا فلم امريكي بامتياز ..واستغرب ان مكسيكيا كتبها.. فهل حصلت على جنسية مكسيكية؟

    حرفية بالغة اهنئك عليها..
    نعم فلا شئ لدينا الان يشجع على ان يحفل او يحتفل بنا احد ..
    فكيف ان ينضم الينا؟؟

    تحية كبيرة وشكر كثير.
    عـاقــد الحــاجبــين
    http://m-diri.maktoobblog.com

  6. #6
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.25

    افتراضي

    دائماً كنت أراهن على قلم ليس ككل الأقلام ، وأنت هنا كما في الشعر تؤكد أن قلمك أيها المبدع عبد الواحد قلم فريد أنيق. ولا أزال أرجو لو نحوت مبتعداً قليلا عن بعض ما تعلم من تحفظي عليه لبلغت بما تكتب فينا شأواً عظيما.


    تقبل التحية والتقدير والإعجاب
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. قصة أم دغش ... قراءة فكرية
    بواسطة خليل حلاوجي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 27-09-2006, 08:52 AM
  2. تبادليه فكرية … بين آدم وحـواء
    بواسطة عبلة محمد زقزوق في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 05-03-2006, 09:52 AM
  3. الشعراء الشعبيون .. ( دعوة لمنازلة فكرية هادئة )
    بواسطة عبدالله الخميس في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 16-04-2005, 07:59 PM