لكم جميعا و دعوة أوجهها للأحبة لمتابعة أحداث شاء لها القدر أن تنسج ألامها في صميم الفؤاد و تنشر أمالها في أفق أراد له *البعض* أن يكون ظلمات تعلوها ظلمات ...
مُدّني بجبينك سيّدي ...
أقبِلُهُ...
أستنشق شهامته
مُدّني بكل ما تملك من إبــــاء...
ألبسه ...
أنثره فوق رؤوس الأبريــــاء
مُدّني بحنجرة النصر سيدي ...
أصرخُ بها ...
أزَلزِلُ ...
أقتلع بها كرسي غاشمٍ
أحرقه...
أنسج من رمادِه ...دِمَائِــه
النصر آآآآتْ.
*****************
من شُرفة بيتها العتيق و المُنغَمِس في حِكَايات الماضي الأليم، لم تكن تحمل سوى وشاح تُلَملِم به دُمُوعَها الحارقة، غريزة الأنثى الخائفة، وَلَهُ الأم الصّادق يعصر رُوحها، خَفَقَان قلبها وارتجافه يُرسل و ينشُر نظراته هُنا و هُناك.
في الأفق البعيد، قَلِقة مُرتقِبة و لكن هذه المرّة أدهى وأمر، فلم تَعتَد على غِيابه لوقت طويل، فهو لا يفارقها إلاّ للحاجة. قلبُها الجريح و صدرُها المتضايق أرغماها أن تقف منذ الظّهيرة تنتظر عودته دون ملل لساعات طويلة، فلا هي تستطيع أن تخرج في البحث عنه ولا عيناها استسلمتا أمام إصرار جُنُودِ اللّيل!.
كنت في الخامسة من عمري حينما قال لي والدي: "بُنيّ، سأراك رجلا شهما و سأفتخر بك لا محالة يوما ما" و بسذاجة الأطفال سألته: "و هل ستفخر بي حقّا يا أبي" فردّ و هو يضغط على يديّ الصّغيرتين ليُؤكّدَ صرامة و قوة كلامه: "نعم بُنيّ، لأنّك و أمثالك من أبناء الوطن ستحرّرون الأقصى و الجولان من يد المُحتل"...حينها ذهبت أجري صوب أمّي المنشغلة بتحضيرات الرحلة الى الربيع الفاتن: "أمّي، أمّي سأحرّر الأقصى و الجولان، أعدكم أنّي سأحرّرهما" فمسحت على شعري و قالت: "بإذن الله بنيّ" و طالبة مني الاستعداد للنزهة.
ليست المرة الأولى التي أخرج فيها مع عائلتي الى الغابة الجميلة لنجلس غير بعيد مُستأنسين بخرير الماء المتدفق من عين انبجست في رأس الجبل المقابل لريفنا، مُلتفة حولنا أشجار الصنوبر، مُرددا لنا أبي حكاياته البطولية و مُمارسته لكل أنواع التمرُد على والديه و شيخه في المدرسة القرآنية آتيا الى هنا ليلعب و يمرح مع أصحابه و جالبا الحطب لجدتي لطهو الطعام و وقده في الشِتاء القارص و بيعه في سوق المدينة القريب و في الأسواق البعيدة أحيانا، أما في شبابه و بعد تسلل المستعمر الى القرى المجاورة ثم الى ريفنا لم يُفكر أبي للحظة، بل ببسالة و إصرار قرر اللجوء مع أقرانه إلى الجبل نِيّة محاربة المستعمر و إلحاق الخسائر المتتالية في صفوفه المُدججة.
"لم تعد الأيام جميلة كما كانت في السابق، رغم غياب ما يُسمى بالسياسة و القانون آنذاك، لأننا كنا نُخفي ذلك في قلوبنا، فشرعُ الله و الأعراف كانا يقفان حاجزاً يُحاسب و بِعدل من يتجاوز حدودهما الحمراء".
هذا ما كان يقوله لنا والدي بل و يؤكّد أنه لابد لنا من الحذر و على كل واحد منا أن يكون فطنا دون فهم قصده؟.
خرجنا من البيت و السعادة تغمرنا، سِرنا جنبا الى جنب-أنا و أختي-و كأننا نقصد الاحتكاك و الجذب و الدفع أكثر من أي وقت مضى، بينما أبي و أمي مُنهمكين في مُغازلة بعضهما، ومن حين لآخر نسمع والدي يدندن لها و وجنتاها الورديتان تَتَفَتَحان له زهرة حمراء خجولة...و بعد ساعة من مغادرتنا للبيت و اشرافنا على الطريق المُلتوية الغائرة في كثافة الغابة المُوصلة لأعلى الجبل و العين العذبة هُناك، إذ دوّى انفجار عنيف بدا بعيداً يهزّ عرش سعادتنا و يسقط تاج الفرح عن قلوبنا المسرورة لِتوِها. حينها أمرنا والدي بالبقاء في مكان ميّزه بشجرة باسقة، و بعد دقائق عاد و هو يجمع أنفاسه المُنهكة ليجدنا مُلتفين حول بعضنا وعيوننا تصرخ خوفا و جزعا، "علينا العودة للبيت فصوت المدافع و القصف آت من خلف الجبل و كلّ من التقيته لا يعرف مصدره سوى أنها قُوّة مُدجّجة!!!"، فقالت أمي بعد أن غدا جمالها سوادا فاحماً "العدو، العدو". وراحا يشقان الطريق متجهين بنا الى بيتنا بعد أن حملني والدي فوق منكبيه و أختي قد استقرت فوق ظهر أمي.
لبثت بنا السّاعات و آذاننا تتمزّق من هول القصف و قلوبنا ترتجف هلعا، أخرسنا الفزع، جرّدَنَا من أرواحنا، أحجار صَمّةٌ مُتعانقة، لا نتحرك، لسَعَنَا صمتٌ رهيب، تسلّلَ الخوف إلى أحشائنا كسُمٍّ قاتل، بهَتَ جمال أمّي و أختي...ذاب في أجاج الفاجعة، "الصّهاينة، الصّهاينة"، ثمّ أردفت أختي و هي تبكي: "ألم يكتفُوا من تدمير فلسطين و سفك دمائها؟، ماذا يريدون منّا؟، ألم يقتلوا كل أهلها الأبرياء العُزّل؟"، أمّا والدي فكان يُصارع من أجل انقاذ أحِبّته، راح يُزيح صندوقا كبيرا عن فوهة مخرج سرّي تحت بيتنا كان قد حفره مع جدي من زمن بعيد بغية الاختباء فيه ان هو داهمنا العدو...و هو كذلك و بِجُهدٍ بليغ حتّى سمعنا صوت طرق عنيف على باب بيتنا يكاد يقتلعه من مكانه، دخل المحتلّ إلى عقر دارنا، جمعنا والدي كلنّا إليه و أسكننا بقوّة في حضنه الدافئ ثم همس لأمّي: "أنا أحبّك...أنا أحبّك" ثم أردف "اعتني بثمرة فؤادي و قُرّة عيني"، ثمّ ابتسم لأختي جُمانة و كأنّه يقول لها: "الوداع بُنيّتي"، أمّا أنا فالتفت إليّ و قال مُتحمّسا: "كما وعدتنا يا بطل(الأقصى و الجولان)"، فقلت له و بثقة الأحرار: "أعدك يا أبي، أعدك".
ضحكاتهم الخبيثة و المرتفعة خارج المنزل تزعزع أسوار بيتنا، تقترب و تقترب، يُتلف أزيزها ترانيم الحياة، تملأ النّفس ذُعرا، تغرقُ العين دمعًا، و في لمحٍ البصر امتلأت الغرفة الّتي كنّا نحتمي بها برجال ذوي جُثث ضخمة، لم يَسلَم أحدهم من تشوّهَات على وجهه أو في أجزاء أخرى من جسده... لم نُحرّك ساكنا، قام أبي من مكانه ليُسلّمنا إلى حضن أمّي ليقفَ وقفة الواثق من نفسه.
صوتٌ عربي قُح يشقّ طريقه بين الوحوش المتلهّفة، فَغَرَت أمّي فاهَا و طفقت تُردّد بصوت منخفض خَفيّ: "العسكر، العسكر، أبناء الوطن، أبناء الوطن".
وقف الجندي أمام التفافنا حول بعض و في فمه سيجارة و على يده الموشومة استقر رشّاش لامع، جلس جلسة الخيلاء على الأريكة المقابلة لنا ثمّ راح ينفخ من فمه العفن أسئلةً لا علاقة لأبي و لا نحن بها: - أين هم الإرهابيون...ها أين هم؟
و مِن دون تردّد أو خوف قال أبي مبتسما:
- الإرهاب، ألا ترى أين هم، هم هنا أمامك.
كشّر عن أنيابه و التفت يمنة و يسرة: أين هم... أجب...، لِمَ تُخبّئون أعداء الوطن بينكم يا... ؟
- أنت و كِلابك هم الإرهاب، ألا ترى ما فعلتم بالبلاد و العباد، ألم تكتفوا من أكل أرزاقنا و امتصاص عرق جباهنا، بالله عليكم ألم يحنّ قلبكم يومًا ..أليست لكم أفئدة تشعر بوجع المظلومين، أيّ فصيلة من البشر أنتم؟!، فلا أحسبنّكم إلاّ وحوشًا لا ترحم.
صرخ الجندي في وجه أبي و قَطَع حبل كلامه و أمره بالصّمت وإلاّ... ؟
- و إلاّ...و إلاّ ماذا؟، و هل تحسبني أخشاك أو عبداً لسيّدك(لا و الله)، تأكد يا هذا أنّ أمهاتنا أنجبتنا أحرارًا و سنبقى و نحيا كذلك ولن نركع إلاّ لربّ الأحرار، و تأكّد أنّنا سنرضى بالموت كيفما كان في سبيل حُريتنا و في أيّ وقت... أمّا المذلّة و الخُذلان فسنتركها لك و للخنازير أمثالك، (تفو) عليك و على أصنامك.
يتبع...