عندما غابت الشمس
كانت كوكبة من خيرة أبناء هذه الأمة
يقذف بها داخل غياهب سجون عبد الناصر
وتعزل عن سمع الدنيا وبصرها ، وشمسها كذلك
عندما غابت الشمس
لم يكن هناك من شاهد على عقدين من الزمن
بين التعديب ، والأعمال الشاقة
بقلب صحراء قاحلة إلا الله سبحانه وتعالى
وما كتبه خيرة الأبناء من تلك الكوكبة الطاهرة
قي أعمال أدبية رائعة
ليكون الأدب كما كان قديما شاهدا على حياة الجماعات والأفراد
بحلوها ومرها
و يحضرني هنا كتاب .... عندما غابت الشمس
للأخ عبد الحليم خفاجي....و هو أحد أفراد تلك الكوكبة الطاهرة
الذي يروي القصة الكاملة بمختلف فصولها
*****
وسط التعديب ، التنكيل ، الأعمال الشاقة ، الفتن ، البرد والجوع
الإبتعاد عن الأبناء ، الأهل والأقارب ، الأصدقاء
من بين هذه الأمور كلها قد يصبح الضحك والتخفيف من وقعها على النفس عبادة
يتقرب بها إلى الله
*****
في هذا الصدد أنقل للقارئ الكريم هذه القصة الطريفة كما جاءت في الكتاب كاملة
في الفصل الحادي عشر ....الصفحة 379
******
نبأ لأفناك
شخص واحد استطاع أن يفلت من كل صور التكدير مند الأيام الأولى للسجن حتى اليوم، وكان
يعتبر المنافس الوحيد لإبراهيم أبو العيش المشرف على مجلة مصلحة السجون...فهو في عهد المأمور
ضياء ، وكذلك في عهد المأمور شنيشن ، محل تكريم وإعفاء من أعمال السخرة ، بل كان الضباط يتوددون إليه ...
...فكان لذلك صمام أمان بيننا وبين الإدارة كلما تأزمت الأمور....هذا الشخص هو الأخ عبد القادر
حميدة الموظف بكلية الزراعة ...روحه مرحة....حديثه خلاب...، ولكن لا علاقة لذلك بوضعه....فالسبب
الرئيسي يكمن في أصابعه الماهرة ، التي التقطت في أول يوم خرجنا فيه إلى الجبل أحد السلاحف
الجبلية ، ونجح في تحنيطه ، وقدمه هدية لأحد الضباط ، فلفت إليه الأنظار ، وبدأ يتوسع في تحنيط
الحشرات و الطيور الجبلية والزواحف ، و الصحراء لم تبخل عليه بالأصناف النادرة والأشكال
العجيبة ، وما أسرع ما خصصت له الإدارة حجرة خاصة في مرافق السجن . يباشر فيها هوايته
لحسابهم ولحساب أصدقائهم من ضباط المحافظة و كبار الموظفين .. و داعت شهرته ، وصار مرفقه
مزارا لكل قادم إلى السجن . ومن طرائف ما جرى معه أنه أهدى ذات يوم بومة محنطة للمأمور
التركي ضياء ليزين مكتبه ... وما أن خرج عبد القادر من المكتب حتى أصيب المأمور بمغص
كلوي حاد . و لما تجمع الضباط والسجانة حوله أمرهم بإحضار عبد القادر فورا...فأخذوه إليه
و هو منزعج ، ولما دخل عليه قال له :
-- انزع هذه البومة فورا ، واخرج من أمامي ...ألم أقل لك إنها تجلب الخراب.
فقال – ياسيادة المأمور ...هذه اعتقادات باطلة ، وأنت رجل متعلم ....إنها مجرد طائر مثل بقية الطيور
والتشاؤم ليس من الإسلام...و أنا أملك شخصيا بومتين في بيتي...فضحك المأمور قائلا:
-- وهذا سر خراب بيتك و دخولك السجن...فأسقط في يد عبد القادر و لم يجد جوابا.
****
و لهذا الأخ الظريف قصة أخرى في عهد المأمور الثاني شنيشن ، أبطالها هذه المرة زوج من الثعالب
صغيرة الحجم ، ناصعة البياض ، حوراء العيون ، نادرة النوع ، تسمى أفناك ، ومفردها فنك ..
سال لفروتها لعاب كل من في السجن و المحافظة ...و عبد القادر يمني الجميع بوصلها بعد أن يشتد عودها
..وقوي مركزه ، وتدعمت امتيازاته ، و زادت مقرراته . وذات يوم نسى باب قفصها مفتوحا ، فحفرت لنفسها سردابا تحت الجدار ، وهربت منه بليل إلى الصحراء الواسعة...و جن جنون عبد القادر بعد أن تبخرت أحلامه و تهدد مركزه لدى الإدارة ، ولامه المأمور و الضباط ، ونقصت مقرراته من اللبن واللحم ، و أحدث الخبر هزة كبيرة في السجن ، وتعليقات لاذعة من إخوانه أقعدته داخل الزنزانة ، ولم
يجرؤ على السير في أرجاء السجن....وانتهز الإخوان الفرصة وذهبوا بعد عودتهم من الجبل يعزونه في مصابه ، وبعضهم علق شارة السواد على صدره ، إ معانا في المزاح ، واكتظت زنزانته و على رأسهم
القيتارة البشرية سعد سرور و قرينه أحمد حسين ، والمجموعة معها تردد أغنية.....
.هاتي الدموع يا عين
وأبكي على الفنكين
بعد التعب ما طال
طاروا في غمضة عين
وقمت بدوري بعمل موشحة غنائية ، و ذهبت إليه ومعي بطانة تردد تلحين الموشحة الطويلة
التي تحكي القصة كاملة :
**************
هل جاءك أمر الأفناك
الضاحك منها والباكي
لما مكرت مكرا حسنا
لما خشعت كالنساك
لما حلفت إلا وضعت
عبد القادر في الأشراك
لما فطنت لمؤامرة
دبرها ساعة إمساك
يأتيها باللحم المشوي
و يمصمص عظم الأوراك
قالت لرفيقة محنتها
ويلي من هذا السفاك
ما حبا منه ولا كرما
يجري ويبش لمرآك
يغدو يتغزل في لوني
و يروح يغني بصباك
و المكر يكلل هامته
فخدي حذرا إن حياك
سيظل يدللنا حتى
إن زاد الشعر وغطاك
سيدس السم ليقتلنا
و يحنطنا في الشباك
لا تنس شيئا من قولي
إباك يغرك إياك
مالي ألقاك مخشبة
ما بك فاغرة فاك ؟
ما بال عيونك شاردة
والهم آراه يغشاك
قالت والدمع يغالبها
أبكي بلواي وبلواك
حقا يا أخت فجعتيني
في هذا اللص الأفاك
قد كنت أظن به خيرا
حتاي يخون وحتاك
شكرا لجميلك يا أختي
سلمت للشارع يمناك
الآن فطنت لقصده
قصد الشرير العكاك
أيريد بفروتنا قربا
من زمرة أصحاب الكاكي
فيحقق من هذا غرضا
مفهوما عند الأفناك
يتفادى تفتيش الهمج
ويجوب جميع الأكشاك
ويعافى من شغل الحبل
ويعيش طليقا يرعاك
أيضحي بي في مصلحة
لولالى لخاب ولولاك
لا كان الشعر ولا طلعت
في ظهري غير الأشواك
قسما سأريه مكايدنا
سأريه دهائي ودهاك
إن جاء غدا في غفلته
فارميه بلحظ فتاك
من سحر عيونك ياحورا
ليصير صريعا لهواك
إن يشقى من خبل الحب
فسينسى الباب وينساك
عجبا قد صحت حيلتنا
حـياك الـله وبـيـاك
جدي حفرا يا فرحتنا
ما أسعدني ما أحلاك
فالليل يوارينا حتى
إن جاء الفجر سألقاك
في خارج هذا المفجور
تهنين بأرضك وسماك
شـكـرا لله فــقـد فـزنا
من بعد عناء وعراك
بين الأحباب هنا نبقى
من غير قيود وشراك
سنصيب الرزق ولو عشنا
بالعظم وبعض الأشواك
وتركت هناك تحيتنا
في الأرض تفوح بذكراك
ليعيش العمر ولا ينسى
قولا لصغار الأفناك
حريتنا يوما عندي
أشهى من لحم الأوراك
**********
وفي الأخير وردت هنا أسماء بعض الإخوة
ولست أدري إن كانوا على قيد الحياة بعد أم لا
فمن كان لا يزال على قيد الحياة أطال الله عمره لما فيه الخير
ومن توفي فرحمة الله عليه و أسكنه فسيح جنانه