الرثاء من أهمِّ الأغراض الشعرية التي عالَجَها الشُّعَراء من الجاهلية حتى وقتنا الحاضر، وطبيعة هذا الغَرَض مُنسَجِمة تمامًا مع العوامل المؤثِّرة في الشُّعَراء، والتي تُحَفِّزهم إلى نظْم الشعر، فالحزن على فَقْدِ عزيزٍ يُمَزِّق نِياطَ القلب، والبكاء عليه يفجِّر ذلك الحزن المكبوت. والعاطفة في الرثاء أصدق وأعمق من كثيرٍ من العواطف البشريَّة، وقد فاضَل المعرِّي بين عاطفة الحزن وبين عاطفة الفرح فقال:
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الحُزْنِ أَضْعَا
فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ المِيلاَدِ
الدكتور مصطفى السباعي، العالِم المسلِم والقائد الفذُّ، قد أقعده مرض الشلل سنوات وتضافَرَتْ عليه أمراض أخرى، فنظَم وهو على فراش المرض قصيدةً يستعرض فيها آلامَه وأحزانه على الآخرين؛ من أولادٍ صغار، وأم تنهار لمصاب ولدها، وزوجة وجِيران؛ فيقول:
أَهَاجَكِ الْوَجْدُ أَمْ شَاقَتْكِ آثَارُ
كَانَتْ مَغَانِيَ، نِعْمَ الأَهْلُ وَالدَّارُ
وَمَا لِعَيْنِكِ تَبْكِي حُرْقَةً وَأَسًى؟
وَمَا لِقَلْبِكِ قَدْ ضَجَّتْ بِهِ النَّارُ؟
عَلَى الأَحِبَّةِ تَبْكِي أَمْ عَلَى طَلَلٍ؟
لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحِبَّاءٌ وَسُمَّارُ
فهو إذًا يبكي ولكن على مَن سيفارقهم، كما أنهم سيبكون عليه:
وَإِنَّمَا حَزَنِي فِي صِبْيَةٍ دَرَجُوا
غُفْلٌ عَنِ الشَّرِّ لَمْ تُوقَدْ لَهُمْ نَارُ
بِاللهِ يَا صِبْيَتِي لاَ تَهْلِكُوا جَزَعًا
عَلَى أَبِيكُمْ طَرِيقُ الْمَوْتِ أَقْدَارُ
ثم يعدِّد الآخَرين الذين سيبكون عليه وينهارون ويتلوَّعون عليه، ويختم قصيدته الباكية بقوله:
الْمُلْتَقَى فِي جِنَانِ الْخُلْدِ إِنْ قُبِلَتْ
مِنَّا صَلاَةٌ وَطَاعَاتٌ وَأَذْكَارُ