المولد ـ اللقاء الأول ـ الهجرة ـ الوفاة
بهجت الرشيد
أربع محطات من تاريخ البشرية المهمة والخطيرة يتجاوزها المسلمون بالتركيز على الشكل دون المضمون .. الظواهر دون البواطن ، يحولون مغزاها العميق الى طقوس ميتة أو شبه ميتة .. أربع محطات لم تأخذ مكانها المناسب من الدراسات والتأملات والبحوث ..
( المولد ـ اللقاء الأول ـ الهجرة ـ الوفاة )
ولا أدعي هنا أن أملك شيئاً مميزاً سأقدمه للقارئ ، لكني حتماً سأثير تساؤلات في عقله ، علّنا نصل إلى فهم صحيح وأعمق وواعٍ لتلك المحطات المهمة جداً ..
المولد :
يثار الجدل كل عام حول مشروعية عمل مولد للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى صرنا نحفظ أدلة الطرفين ورأيهما قبل أن يتكلموا ، ولكن من منا حقاً وقف على أهمية تلك اللحظة التاريخية ، فاحصاً وناقداً وقارئاً لدلالاتها ..
فمثلاً عندما كان الأنبياء السابقون يؤيدون بمعجزات من الله تعالى لتغيير مصائرهم والمؤمنين .. موسى وانفلاق البحر .. ابراهيم وخلاصه من النار .. عيسى مولده ورفعه .. يؤكد القرآن الكريم والسنة الشريفة اللجوء إلى القوانين والسنن المستودعة في كون الله تعالى وخلقه لتوليد عملية التغيير ..
بينما نصطدم في لحظة المولد بروايات تريد أن ترجعنا الى المربع الأول .. وتريد أن نضفي إلى تلك اللحظة دون دليل شيئاً فوق الطبيعي .. معجزة ما ..
رواية تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد واضعاً يديه على الأرض على هيئة السجود ..
رواية أخرى تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختوناً مكحلاً مدهوناً ..
وأخرى تقول إن إيوان كسرى سقطت وخمدت نار المجوس وغاضت بحيرة ساوة ..
لكن ما هي حقيقة هذه الروايات عند التمحيص والنقد أولاً ؟ وما هي أثرها على العقل المسلم عندما ينساق وراءها وهو يحوّل مولد النبي إلى معجزة ؟
إن عيسى عليه السلام ولد بمعجزة .. نعم .. لكن النبي صلى الله عليه وسلم ولد بصورة طبيعية ، وهذا يتفق تماماً مع الدين الذي أتى به من عند الله تعالى .. دين الفطرة !
طبعاً دلالات النبوة وعناية الله تعالى بنبيه وصناعته على عينه كانت بادية عليه منذ صغره ، حادثة شق الصدر مثلاً .. لكن الانسياق وراء كل رواية من شأنها أن تمدح النبي في الظاهر وحسبما نتصور وهو في حقيقتها تورث أثراً سليباً استسلامياً في العقل المسلم ، يجب الحذر منه واستبعاده ..
اللقاء الأول :
كان موقفاً لا شك مذهلاً وثقيلاً في آن .. بعد ستة قرون من الانقطاع ، تتصل السماء بالأرض مرة أخرى ..
لا شك كان لقاءً مميزاً ومؤثراً .. ولا شك بأن الحديث الذي حدث بين رسول السماء ورسول الأرض كان مميزاً وذا مغزى عميق أيضاً ..
يقول سيد قطب في تفسيره ( في ظلال القرآن ) عن عمق دلالة هذا اللقاء :
( وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير ، ثم مررنا به وتركناه ، أو تلبثنا عنده قليلاً ثم جاوزناه!
إنه حادث ضخم . ضخم جداً . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته ، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعاً .. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ؟
حقيقته أن الله جل جلاله ، العظيم الجبار القهار المتكبر ، مالك الملك كله ، قد تكرم في عليائه فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان ، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي ، ومستودع حكمته ، ومهبط كلماته ، وممثل قدره الذي يريده سبحانه بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان قدر طاقته حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية ) .
أتاه جبريل على صورته ، وقال له : اقرأ ؟
لماذا على صورته ؟ ألم يكن مجيئه على صورة إنسان كما كان يفعل بعد ذلك أقل وطأة عليه ومشقة ، على الأقل في اللقاء الأول حتى لا يفاجأ مفاجأة شديدة كالتي حدثت ؟
لكن ألا يوحي ويؤكد ذلك الإتيان لجبريل على صورته بحقيقة هذا الدين .. الوضوح .. منذ بدايته ، وأن لا غموض ولا مواربة ولا مداهنة ؟
لماذا اقرأ ؟ وماذا يقرأ وليس عنده كتاب أو صحيفة ، وهو أميّ أصلاً ؟
ثم لماذا القراءة باسم ربك وليس باسم الله ؟
لماذا الذي خلق ، وخاصة الذي خلق الانسان ؟
لماذا الأكرم وليس الرحمن مثلاً أو العليم ؟
لماذا القلم ؟ وما هو مفهوم القلم عند العرب ؟
النبي صلى الله عليه وسلم لحظتها كان يسأل : ما اقرأ ؟
والسؤال مفهوم أصيل في القرآن والسنة بصيغته المباشرة ( اسألوا أهل الذكر ) و ( اسأل أهل القرية ) او بصيغته غير مباشرة عندما يكون كامناً بين ثنايا التأمل والتدبر .. فكيف ولد عندنا العقل الاستسلامي الذي يرتاح الى التقليد والاستيراد !
ولماذا كان جبريل يغطّي أو يغتّي ـ كما في رواية أخرى ـ النبي بعد كل سؤال حتى يبلغ منه صلى الله عليه وسلم الجهد ؟
وما هي دلالة الجهد والمشقة هنا ؟ هل يعني أن هذا الأمر يحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) .
وهل للجهد هنا علاقة بالاجتهاد فيما بعد ؟
اسئلة تحتاج الى وقفات ووقفات ، فتلك الكلمات هي الأولى ، والباب الأول الذي سيهبط بقية الوحي منه على مدى ثلاث وعشرين سنة ..
الهجرة :
أما الهجرة التي كانت من أروع التخطيط والتنفيذ النبوي ، والتي تعتبر من أعلى درجات الأخذ بالأسباب والقوانين والسنن .. تكتنفه روايات ضعيفة ومنكرة ، تطفو على السطح ، وتقضي على تلك الروعة للتخطيط ..
كالروايات التي تقول أن العنكبوت نسجت بيتها على باب الغار والحمامتان باضتا على بابه أيضاً .. فتغنى الشعراء بها وتفنن الأدباء والخطباء بذكرها ..
بينما يدوّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التاريخ الإسلامي من تلك الحادثة ..
لماذا ؟
ألم يكن مولد الرسول مناسباً لذلك كما فعل النصارى عندما أرخوا تاريخهم من ميلاد المسيح ؟
هل لأن الصحابة أدركوا بأن ابتداء التاريخ من المولد ـ وإن كان ميلاد النبي يمثل لحظة الانبثاق النوراني ـ يؤصل عقيدة التقديس الغالي للشخص ، وهو الشيء الذي نبذه الاسلام تماماً ، وحذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) ؟
ألم تكن لحظة الوحي الأولى مناسبة لذلك ، وخاصة بعد ذلك الانقطاع الذي امتد لستة قرون ؟
أو غزوة بدر التي سجل فيها المسلمون أول انتصاراتهم على الشرك ؟ أو فتح مكة الذي به رفع راية التوحيد في جزيرة العرب ؟
لماذا الهجرة ؟
ألأنّها مثلت فيصلاً بين مرحلتين ، مرحلة التأصيل ومرحلة التطبيق ؟
من حالة التهيئة النفسية والروحية الى عالم ترجمة هذه الحالة إلى أرض الواقع ، مع كل ما تمثله هذه الانتقالة من ضغوط واشكالات ومواجهة مع النفس ابتداءً ومع المجتمع ثانياً ومع العالم الخارجي ثالثاً ؟
نعم .. لا هذا ولا ذاك .. كان بداية للتاريخ .. وإنما الهجرة بمغزاها العميق ودلالتها البليغة ..
التاريخ يبدأ من الفعل والانجاز الحضاري .. من قيام الدين في واقع البشر .. لا من حياة أحد أو موته ، حتى لو كان رسول الله ، لأنه هو نفسه لا يريد منا شيئاً لذاته وشخصه ، بل يريد منا ان نكون عباداً لله ، محققين مقاصد استخلافه سبحانه لنا في أرضه .. ولهذا كان أبو بكر صريحاً في مقولته .. عميقاً في فهمه .. وهو ينعى موت النبي إلى الصحابة :
من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت ..
فالتأريخ من الهجرة هو تأريخ لأمة استطاعت أن تبني دولة قائمة على دين ، وحضارة قامت على أساس الحق والعدل والحرية .. تجلٍ حقيقي لأثر العقيدة في الإنسان ، وروعة الاستجابة لأحكام الله تعالى وانسجامه معها ، وبرمجة حياته على مقتضاها ..
الهجرة .. والهجرة وحدها .. هي التي حققت ذلك لا غيرها ..
لكن يبدو أن العنكبوت نسجت بيتها في عقولنا والحمامة عشعشت فيها ، فمنعتنا عن التفكير !
الوفاة :
تحدث الحادثة ، وتكون مشكلة ، فيهرع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفزعون إليه .. فيأتي الوحي قاضياً في ما أشكل وكاشفاً لحكم الله في الحادثة والمشكلة ..
ولكن عندما توفي الرسول انقطع الوحي وخبر السماء ، فكانت دهشةً للصحابة وصدمة ..
وانقطاع الوحي هنا أيضاً له دلالته العميقة ..
فهو يؤكد على انتهاء زمن الحلول الجاهزة ، فليس هناك رسول الله بشخصه فيفزع إليه ، وجبريل بات لا يأتي من السماء بشيء ..
بكت أم أيمن حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : لها أتبكين ؟ فقالت : إني والله قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت ولكني إنما أبكي على الوحي الذي انقطع عنا من السماء ..
إنه فهم مرهف ، ووعي شفاف للدور الذي أنيط للأمة في قابل أيامها ..
ختمت النبوة وأصبح المسلمون يقفون وجهاً لوجه مع النص الإلهي ، ليتعاملوا معه ، فوُضع الإنسان مباشرة لتحقيق مبدأ الاستخلاف من غير رسل ، وتمّ ربطه بالمصدر المباشر ، دون أشخاص بينهما ، النبوة في الإسلام على حدّ تعبير المفكر محمد إقبال في كتابه ( تجديد الفكر الديني ) ( لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه ، وإن الإنسان ، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو ) فكان بذلك ( مولد العقل الاستدلالي ) ..
وذلك لا يعني بحال من الأحوال أن الانسان لم يعد بحاجة الى الإرشاد الإلهي ، وأن الانسان بات غير محتاج الى ما جاء به النبي ، فهذا كفر محض ..
ولكنه يعني بأن لا حلول جاهزة بعد اليوم ، وعلى الانسان أن يتحمل حلول مشاكله وقضاياه بالرجوع الى النص ، وإعمال العقل في فهمه وتدبره ..
فـ ( ختم الرسالة ) و ( ظهور العقل الاستدلالي ) ، وتميز هذه الأمة بأخذها لعملية الاجتهاد التي هي بذل الوسع في النظر والتأمل في كتاب الله وسنة رسوله لاستخلاص الأحكام منهما لمعالجة قضايا الزمان والمكان .. كل ذلك ما هو إلا تأكيد على تجاوز مرحلة المعجزات الخارقة إلى العمل العقلي القوانيني السنني التي تتماشى وتنساق بلطف مع شريعة الله ..
إن إعلان ختم النبوة ( لا نبي بعدي ) يعني رسمياً أن يتولى الإنسان تحقيق معجزة التغيير الحضاري على كافة الصعد بنفسه مع منهجه الإلهي .. يعني إلغاء الكهانة والرهبنة وكل أشكال الخرافات .. يعني إشارة الإنطلاق إلى عصر البحث العلمي والبرهان الواقعي وضرورة ( اقرأ ) الذي أول ما نزل به القرآن .. يعني إحياء العقلية الإبراهيمية المتسائلة .. يعني ضرورة إحياء الفكر ( الاجتهادي ) و ( المقاصدي ) والخروج من قوقعة التقليد وسحب الماضي بكل ما يحمله من خصوصية أو سلبيات ..
وقد فهم الأولون كل ما مضى .. ليس بالضرورة عن طريق التنظير والتأليف .. ولكن على مستوى الشعور والوجدان والإيمان .. فابدعوا في كافة الميادين .. الدينية والعلمية ..
فهل سنفهم ذلك أيضاً ؟!