المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى
تلبدت سماء غرفة ( الانتظار ) بغيوم من دخان , وبأنفاس قلقة مضطربة, راحت تعبر عن
قلقها بأشكال مختلفة.. فهذا راح يذهب ويجيء ـ والآخر أخذ ينقر الأرض بقدميه نقرات
عصبية, بينما أخذت تلك تقف حينا وتجلس حينا .. لكنهم جميعا اتفقوا في شيء واحد فقط
كانت أعماقهم جميعا تهتف في تبتل يا رب .. يا رب .
أما هى .. فقد وقفت مستندة إلى الجدار , ممتقعة الوجه , كمن غاب عن الوجود , فقد كانت
كل نبضة فى عروقها, وكل قطرة دم فى جسمها , تصلى صلاة خاشعة إلى الله .
وقفت مقابلة لذلك الباب المكتوب عليه ( غرفة عمليات ) تنتظر من يطمئنها , ولكنهم غابوا
جميعا داخلها وكأن الأرض قد ابتلعتهم
رغما عنها سرح الخيال منها بعيدا , لعدة سنوات مضت .. يوم دق الباب ففتحت لترى
أجمل عينين . . كان صديقا لأخيها جاء يسأل عنه ـ عزف القلبان مقطوعة جميلة , ونبتت
زهرة حب نقية فى أرضها البكر .. بعد أيام جاءت عائلته خاطبة, لم يتبادلا كلمة واحدة ..
لم يحاول حتى أن يسألها عن شعورها , فقد كان للعيون حديث خاص .
وسرعان مالفهما عش سعيد , عرفت فيه جميع ألوان السعادة .. أعطاها هو كل شيء
الحب والحنان والأمان .. فأعطته هي كل شيء .. الروح والقلب والجسد .
أياما حلوة رفرف عليها الحب بأجنحته الوردية, فتحركت ثمرته فى بطنها ـ صنعته من
الحب وسقته السعادة فجاء طفلا جميلا هو لهما البسمة والأمل .
ولكن الحياة لا تدع من عليها دون أن يمروا بتلك الاختبارات العسيرة التي تزعزعهم أحيانا
وتزلزلهم أحيانا أخرى . استيقظت يوما قلقة مضطربة لأحلام مزعجة , وهواجس خبيثة
انتابتها طوال الليل ـ ودت لو تقول له : أحمد .. أبق معي ـ لا تخرج اليوم .. لكن كل ما
استطاعت أن تقوله : حاول ألا تتأخر .. قال وهو يبتسم : أعدك عزيزتي ألا أتأخر .
لم يستطع أن يفي بوعده .. تأخر كثيرا .. ولم يعد .. ولن يعود أبدا .. هكذا قالوا لها ـ قالوا
كلاما كثيرا لم تستطع أن تستوعبه بسهولة .. حادث .. مستشفى .. موت .. فراق أبدى .
إعصار قوى رفعها إلى أعالي السماء , وتركها لتهبط إلى القرار .. ممزقة الأشلاء..
مبعثرة الدماء .. تمنت الموت .. ولكنها بعد حين وبقبس من إيمان , لملمت شتات نفسها
وتشبثت بصغيرها ـ رأت فى عينيه عيني الحبيب الراحل , ابتسمت له فى حنان , وضمته
إلى قلبها ليصبح لها هو الحياة .
ومنذ أيام قليلة فقط .. بدأ الصغير يشعر بألام حادة فى أمعائه .. وعندما عرضته على
الطبيب قرر أنه محتاج إلى عملية سريعة , وها هي الساعات تمر والحبيب الغالي بعيدا
عنها , وقد أقفلوا دونها ذلك الباب .
ـ ماما .. حبيبتي ماما .
ـ هه .. نور عيوني .. أين أنت ياحبيبى ؟؟؟
يناديها صوت مألوف ـ كيف حالك أيتها الحبيبة ؟؟
قالت بتعجب : أحمد .. أنت هنا أيضا . شهقت شهقة تدارك وقد ملأ الخوف قلبها
لما أنت هنا .. لا تقل إنك ..
أحمد ـ نعم أيتها الغالية .. لقد جئنا لنودعك .. آن الأوان لكي يكون ابننا معي .
ارتعدت كل أوصالها .. هتفت ـ إنه صغير جدا .. أنا أريده , أحتاجه , ليس لي حياه بدونه
ألا يكفى رحيلك .
أحمد ـ من أجلك يجب أن يذهب ـ سيمنحك رحيله فرصة لكي تعيشي الحياة من جديد .
ـ بدونه لن تكون لى حياة .. بل نار مستعرة ستأكل عمري , ظلام دامس ليس له نهاية
أحمد ـ النار تصقل الذهب , ومن الظلام يولد النور ..
ـ ماما .. حبيبتي .. تذكريني .
شحب لونها حتى صارت كالشبح , ارتعشت , ترنحت في مكانها , وانشغلت عن كل ما
حولها فلم تسمع , ولم تر , ولم تشعر بشيء ــ لم تر الدكتور وقد خرج من الغرفة قائلا
البقاء لله ـ لم تشعر بأمها وهى تأخذها فى أحضانها باكية .. نادبة..
كانت غائبة بكل حواسها .. تنظر مودعة بعينين ملأتهم الدموع لعصفور أخذ يرفرف فى
الخارج ..عصفور أخضر جميل وكأنه من عصافير الجنة .
أخت نادية
جمالية الصياغة و رشاقة اللغة و انسياببتها كانت بمثابة الشجرة التي اخفت مأساة البطلة...و هذا نجاح كبير للشكل الذي سكب فيه هذا النص الجميل. ومع ذلك فالمضمون فرض نفسه على القارئ و جعل أنفاسه تتغير حسب أجوائه.من بداية السعادة التي عاشتها بالزواج المبني على حب مباغث لكنه حب لذيذ أثمر طفلا عذبا... إلى النهاية التراجيدية المتمثلة في جبروت الموت الذي أصبح قناصا أعور سدد طلقتين على منبع سعادتها.
و بذلك يكون النص قد نجح شكلا و مضمونا في تبليغ فكرته.و زاده العنوان نجاحا.
تحياتي