...
صرخ الجندي في وجه أبي و قَطَع حبل كلامه و أمره بالصّمت وإلاّ... ؟
- و إلاّ...و إلاّ ماذا؟، و هل تحسبني أخشاك أو عبداً لسيّدك(لا و الله)، تأكد يا هذا أنّ أمهاتنا أنجبتنا أحرارًا و سنبقى و نحيا كذلك ولن نركع إلاّ لربّ الأحرار، و تأكّد أنّنا سنرضى بالموت كيفما كان في سبيل حُريتنا و في أيّ وقت... أمّا المذلّة و الخُذلان فسنتركها لك و للخنازير أمثالك، (تفو) عليك و على أصنامك.
و هو يمسح البُصاق الطاهر عن وجهه الذّليل، ادّعى أنّ والدي خائن متآمر على تدمير الوطن!، ثمّ غمز مَنْ كانا على جانِبَيْه، و بِحَركة هِستيريّة ضربهما على قفاهما، و بسرعة قام أحدهما بتكبيل أبي من يديه و رجله، أما الخبيث الثاني فاغتنم ضُعفَنَا و بوحشيةٍ شنيعة سحب أمّي من رجلها النّحيفة و لطمها بعرض الحائط ما جعلها تسكن في زاوية البيت مُغما عليها، ثمّ اقترب سيدهم من أختي، "جُمانة" البهيّة التي لم تتفتّح كل ورودها بعد، شعرها الطّويل أمواج ذهبية مُسترسَلَة، ثغرها الصّغير خاتم دري لامع، لكنها ما لبثت حتى صار سحر جمالها مجرد قصة من الماضي، بعد أن أمسكها العربيد و بقوّة ليُجبِرَها و يجرّها إلى خارج البيت و باقي الكلاب يغنّون أغنية الأفراح و كأنّه سيزفُّها إلى بيتها الزوجي!.
بقي الجميع يصفّق و يرقص و هو يسحبها و هي تصرخ و تُقاوم علّها تُفلت من قبضة يديه الحديدية أمام أول دمعة أراها تتسل حُرقة و ألما من عيون والدي المكبل جسمه الأبيّ المتصدي لعدوان الاستعمار سنوات عديدة، فما كان بوسعه سوى الصراخ عليهم و إرعابهم بعذاب الله و انتقامه لنا، أما والدتي فلازالت مغميّا عليها!.
صُراخ أختي يرتفع، يصلُ إلى ذروة الألم و القهر، صُراخها يعلو و يعلو، شهقةٌ من أعماقها زعزعت صُمُود الكون، أختي تصمت، لا أسمع أنينها، سُكُونٌ قاتمٌ قاهرٌ يلقي بأشرعته على بيتنا، قلوبنَا، صمتٌ فصمتٌ، لا صوت لنبض الحياة!.
و هو يبكي بكاء مريرا صرخ والدي بعد عودة سيدهم من خارج البيت دون أختي: "أين هي ابنتي، ماذا فعلت بها، أين هي يا كلب"، فما كان من الظالم سوى أن سلّ سكينا حادا من نفس الجيب الذي دس فيه لسان ابي قبل أن يجف من دمه بعد أن تألق في قطعه و بتأنٍ شديد و تَلَذُّذٍ مقيت، ثم مسح سكينه على وجهه ليقول مُستهزئا:"هذا نصيب من طال لسانه على ربّه، و هذه أجمل هدية سأحتفظ بها". و بعدها اصطفت كل كلابه المسعورة و أفرغت أمعاء رشّاشتها و كأنّها تتنافس على تمزيق جسد أبي المكبل الطّاهر المنتفض كطائر أصابه المطر أمام نيراهم الحاقدة.
أما أنا و في حالة خوف و ذعر و بكاء شديدين، كادت روحي تنسلّ من حشرجتها البائدة، أسرعتُ لخارج البيت بعد أن غادر الكلاب بيتنا تحت قهقهات و إطلاق رصاص عشوائي و رقصات فاجرة ماجنة لِأجد أختي عاريةً من لباسها...من روحها، ممزقةً أوصالها، منهوشاً ثغرها، صدرها، رأسها الصغير مُعلق بحبل تدلى من شجرة التين المقابلة لباب بيتنا. سحبتها على مهل و دماء عينيّ تكتب على جسدها المضمّخ كلمات الأسى و لوعة الفراق بعد أن فككت العقدة المحُكمة على رأسها الصغير ثم أدخلتها إلى البيت و بقيت أُرتب شتاتها. أما أمّي فلازالت ساكنة في زاوية الغرفة! .
**********
لم تكن الأيام الفاصلة بين الفاجعة و رحيلنا عن الريف طويلة، حيث قررت أمي المغادرة بعد أن أقدمت دون تردد على بيع كلّ ما تملك من مصاغ حتى قلادتها العزيزة إلى قلبها من أبي أيّام خِطبتها، هَمُهَا أن تنجو بابنها الوحيد لئلاَّ تطوله يد البطش و الظّلم.
غادرنا الوطن و سافرنا إلى حيث لا ترانا عين العدوّ و لا يمتدّ إلينا سوطه. كانت البداية في حيّ قصديري، حيث اشتغلت أمّي كمنظّفة في أحد البيوت الرّاقية الغنيّة، تخرجُ من البيت و لحاف الظّلام لم تتلاش كلّ خيوطه بعد و لا تعود إلاّ و بيديها المُرهقتين شمس النّهار لتُسلّمها لدنيا الصّمت و السّكون ضمانًا لديمُومة دراستي و معاشي، لم أشعر يومًا بضجرها، بتعبها، رغم ذبولها وتدهور صحتها! .
طالت الأعوام و لازلنا نتضوّر من يومٍ لآخر مرارة شوقنا لبيتنا، للوطن... انتقلتُ بين أطوار التّدريس بتميّز و اجتهاد و مُحرزا الرُّتب المتقدّمة راجيا الوصول الى ما يُمَكّنُنِي من الأخذ بالثأر، فلم أجد سوى القانون!، و بعد سنوات قليلة نُصّبتُ في مكتب قانوني راقٍ، اشتريت من مدخوله السخي مسكنا جميلا، لكن و رغم كلّ المحاولات في إخماد نار الشوق الملتهبة في روحنا لم نستطع أن نصبر أكثر... فأمي قد لَفَحَهَا فِراق المدينة و أهلها و أرقَ جفنيْها سنوات عديدة، فقالت لي يومًا و تضاريس وجهها محفوفة بشرائط همٍّ سوداء، بأنّاتٍ حَشرَجَتْ روحها لم تتركها سوى جُثّة تراقصت كلّ صرخات الوجع على نحافتها:
"دعنا نعُد يا بُني، دعنا نعُد..."
و كانت العودة بالفعل و من هناك بدأت مراسمها ...أقصد من المكان الذي رسمت فيه أمي بغصنٍ صغير حملته من على أرض المقبرة القاحلة...الساكنة إلاّ من تمتمات الموت المترددة الخالدة هناك، رسمت حُدود قبرها على يمينه و قالت بنبرة تجرّ الخُطى"إيّاك أن تدفنني بعيدًا عنهما يا بنيّ، بل أريده ههنا"
هكذا كانت عودتُنا كوَدَاعنا لوالدي و أختي جُمانة مُذ عشرين عاما، كان علينا ان ندفنهما جنبا إلى جنب. و لا شك في قُدوم وقت قد يكون قريبا و نجتمع مرة ثانية و نتلاحم كتلاحُمنا في ذلك اليوم المهيب؟.
طال جلوسنا بين روحيهما الطّاهرتين، و آيات الأسى و الحزن تُرتَّلُ بأفواه البيوت القريبة الجاثية على خرابها و دمارها إخلاصًا من أهل الريف لأبنائهم...لأحفادهم...لصغاره م...لكبارهم، حتى تُطبع و للأبد وصمة العار المقيتة على جبين نظام هَتك و شرّد و سفك و قتل دون رحمة!؟.
***********
دَعَوتُها للعمل بجانبي و جعلِها ...
يُتبع...