عندما تسلّمت العمل مع جريدة الحياة وأردت أن أكتب عن بعض الإصدارات الجميلة، لم أستطع أن أتجاوز كتاب قراءة في وجه الشمس، وكان أن قدّمت له في ديباجة سريعة، لم تتضمن الحديث عن هيمنجواي، لكنّ هيمنغواي كان في خلفية الدافع، الذي دفعني إلى تقديم الكتاب:
الحياة: الخميس المنصرم، زاوية إصدارات:
1.قراءة في وجه الشمس.
مقالات
المؤلف: خالد العوض.
في طليعة الكتاب يضع الكاتب خالد العوض وطاءة تمهيدية يشرح فيها المؤثرات الظرفية المصاحبة لكتابة هذه المقالات: المنافسة المشهورة بين ماتسورا والقصيبي في انتخابات اليونسكو، أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مواجهة هجومات بعض الأدباء والكتاب العرب لجوانب اجتماعية في الحياة السعودية، كتابات في مواضيع مهمة لها علاقة بالأدب والسياسة.
وينتهج الكاتب أسلوب المقالة القصصية أو الوصفية الفكرية، وهو أسلوب ممتع يستحق العناية والتدبر.
يتساءل الأستاذ خالد العوض: ((أيهما اثّر على أعمال هيمنجواي الأدبية؟ عمله الصحفي الذي يتطلب منه الموضوعية والتجرد أم عمله الآخر [الجاسوسي] الذي لم نعرفه إلا بعد ثمان وثلاثين سنة من وفاته؟!)).
والذي فهمته أن الأستاذ خالد العوض، يعزو هذا الصدق الواقعي، وهذه الحقيقة العفوية المعجزة لدى هيمنجوي إما إلى تجربته الصحفية، أو إلى قدرته على الوصول إلى المعلومات بحتمية عمله الجاسوسي.
من هنا جاءتني الرغبة في المشاركة والمداخلة، وعلى سبيل الاستطراد، أقول إن هيمنجوي كان رائعا وعبقريّا، وشرط هذه العبقريّة أن يكون مثل حيوان الكاتوبليباس، الذي ذكره ماريو يوسا في رسائله إلى الروائي الشاب، وهو حيوان خرافي، يبدأ بالتهام نفسه من قدميه إلى رأسه، ليلتهم نفسه في النهاية، بمعنى: أن مادّة الإبداع عند هيمنجوي هي مادّة حياته، أي تجربته كلها، يدخل في ذلك ميله الأدبي، وتجاربه في الحرب والرحلات، ومع النساء، ومقاساته المادّيّة وما يحمله في ذاته من صراع بين الذاتية الإبداعيّة الإنسانية والزخم الأنانيّ الذي يستقبل مادّة العالم على أنها كلها أدوات ليس إلا (وهذا الكلام ليس ليوسا على أيّ حال، فأنا لم آخذ منه إلا عبارة الكاتوبليباس). هذا التلاقح، والتغذي على مكتسبات الذات كلها، بما فيها الذات نفسها، هي ما يسميه النقاد والمتخصصون: (الثراء) أو (العمق) أو (الواقعيّة الصادقة). وهو عندي باختصار: (الصدق الفني الحازم). ولذا نلاحظ أن الكتاب الأمريكيين انقسموا إلى ثلاثة أقسام: كتاب أمريكا، وكتاب أمريكا وأوربا، وكتاب أمريكا والعالم. وأنا أزعم أنّ (هيمنجواي ووليم فوكنر ووليم جولدينج) هؤلاء الثلاثة (ولك أن تزيد عليهم ولكن هذه قناعتي) هم كتاب أمريكا والعالم، وأخصّ هيمنجوي ووليم فوكنر لماذا؟ لأنهما يعتبران من الكتاب الأمريكيين الذين أثروا تأثيرا بالغاً في أدب أمريكا اللاتينيّة، فبثّوا فيه تلك المحليّة الصارخة المجنونة، وتلك الحماقات والبذاءات السليطة التي تجري بغرائبها على ألسن الأبطال، وتلك المشهدية غير المباليَة بأي قيمة إضافيّة ما عدا قيمتها الذاتيّة. وكم ذا قلتُ إن هيمنجوي وفوكنر لا يقلان تأثيرا في أمريكا اللاتينية عن بورخيس وكورتاثر. بل إنني أرى (وهذه كلمة خطيرة، ولكنني أقولها وأتحمل عقوبتها) أنّ كثيرا من الأعمال الأدبية العظيمة في أمريكا اللاتينية ما هي إلا عالةٌ على هذين الكاتبين العظيمين: وليم فوكنر، وإرنست هيمنجوي. إن الكاتب اللاتيني والناقد اللاتيني والمتذوق اللاتيني لا يكاد يحك رأسه دون أن يحدثك عن وليم فوكنر وهيمنجوي. وسآخذ مثالا واحدا ليس إلا، وهو أحد أعظم فانتزيي الأدب اللاتيني على الإطلاق: غابرييل غارسيا ماركيز:
هذا الكاتب في مذكراته، يكاد يصاب بالحمّى وهو يقرأ رواية الصخب والعنف لوليام فوكنر، وهذه رواية لاتينية كما تعلمون، وهذا ما يقوله ماركيز نفسه، لأن الفوارق الحدودية والناشيونالية (إن صحت الكلمة) ليست بأشد تأثيرا من التشابه البيئي والمجتمعيّ؛ وبحسب مذكرات ماركيز، فقد كان يقرأ هذه الرواية في رحلته على السفينة مع والدته، إلى قريته الأم التي نشأت فيها الأسرة، وكان يقرؤها على أبواب القرية وفيها، ويقرأ قريته اللاتينية على ضوئها.
ولسنا ببعيدين عن الرواية الكبرى الشهيرة، التي كتبها وليم فوكنر بالتوازي مع رواية أخرى، وأنا أعني رواية الرجل العجوز، التي تصاغ متوازية مع قصة حبّ في جنوب أمريكا، وقد أفردتها إحدى دور النشر بالطباعة وحدها: في رواية الرجل العجوز نقرأ عن فيضان نهر المسيسبي، حيث يتحوّل النهر إلى الشخصية المصارعة للبطل، فالبطل يصارع في قاربه، ليوصل المرأة إلى هدفها، ويصارع قوى غير مرئية، تحاول أن تغالبه دون هدفه، وتجري غرائبية الكلام ليس بافتعاله، وإنما بالجرأة على تقديم هذا المشهد غير المعقول في قالب مقنع، قالب حقيقيّ إن شئتم القول، البطل يقاتل هذه القوى، ويفقد مجدافه، ويتعرض لخيالات الضياع والجوع، ويظل أياما يقاتل حتى يصل في النهاية إلى الضفة.
هذه الفكرة يستلمها هيمنجواي من وليم فوكنر ويكتب بها (بكل وضوح) رواية العجوز والبحر.
ويستلم غابرييل ماركيز هذه الفكرة ويكتب على إثرها رواية البحار الذي فقد سفينته (بالوضوح ذاته والمشاهد والتجارب ذاتها).
لكن المثال الأكبر المتشح بعلامته الحمراء هو: المقارنة بين قصة قصيرة لهيمنجوي، ورواية لماركيز.
قصة هيمنجوي بعنوان: القتلة. وتحكي قصّة أخويْن يأتيان إلى المدينة يسألان عن رجل يريدان قتله، وهذا الرجل ارتكب خطأ فظيعا، ولكن هيمنجوي لا يبوح بهذا السر، وبرغم أنهما أعلنا أمام الناس أنهما سيقتلان هذا الرجل إلا أن أحدا لم يخبره، ويعثران عليه وهو خارج من منزله فيقتلانه.
العمل الموازي من حيث الصياغة هو رواية ماركيز: سرد أحداث موت معلن.
في هذه الرواية يرتكب سانتياغو نصار خطأ في حق الأخوين، لأنه يفتض بكارة أختهما، ويسرد ماركيز الأحداث متوازية مع قصة القتلة، لكنه يفصل ويسرد كما ينطق بذلك عنوان روايته، ويخبر الأخوان جميع الموجودين في الأرجاء أنهما سيقتلان سانتياغو نصّار، ولكن أحدا لم يحذره، وتجري أحداث الرواية ناهضة على الأسلوب السردي الماركيزي العجيب، إلى أن يلتقي الأخوان بسانتياغو نصار خارج بيته فيقتلانه، بفارق بسيط: أنهما كانا يحملان ساطورين صغيرين، وليس بندقيتين صغيرتين كما في قصة القتلة لهيمنجوي.
هذا المثال يؤكد حقيقة التأثير للكاتبين الأمريكيين المذكورين في ثقافة الأدب اللاتيني، التي تراهن في استقلاليتها الكتابية على الطريقة التي تتناول بها الموضوع، وليس على ابتكار الحكاية أو الانفراد بطابعها الحكائي، فنلاحظ أن رواية ماركيز هذه ما هي إلا سرد موسّع لأساس مكتوب مسبقا، وكاتبه هو: هيمنجوي، هذا هو هيمنجوي، المبدع الذي صنعه أنه يتغذى على كيانه المبدع، وليس أيّ ذاكرة أو تجربة مخصصة بعينها، بل بتجاربه جميعا، جاسوسا، أو صحفيا، عاشقا، مفلسا، أو قوّاداً، بكل شيء، كل شيء.