أمسك يد زميله وعصرها عصر الثوب فأطلق زميله صرخة قوية ملتفتاً إلى الخلف صارخا من الألم ...قل سأتوب.. قل سأتوب ؟؟ نعم. ..نعم سأتوب.. سأتوب!! أطلق يد زميله في كوم من ضجيج زملائه ودخل المعلم مسلما ليتبخر الضجيج في ثواني معدودة ! وقف التلاميذ كالأشجار تتحرك رؤوسهم يمنة ويسرة وهم يردون التحية وأطلق المعلم عينيه في الحشد الصغير وكأنه يبحث عن صديق قديم .ثم قال :- جلوس .
جلس مع التلاميذ وكان يقبع في الوسط علي يمين الفصل ويشرف موقعه على ما يسميه الشارع العام وهو الممر الذي يقسم أمياز التلاميذ ذات اليمين وذات الشمال . يتيح له هذا الموقع رؤية جميع التلاميذ من الخلف كالكاميرا الخفية وهم لا يشعرون كما يرى السبورة بوضوح والحمد لله . في هذا الموقع يراقب التلاميذ ويتعجب من قصات شعورهم الغريبة و يراقب ما يتبادلون من تعابير إشارية فيما بينهم في غفلة المعلم ، ما يخبئون في أدراجهم من الطعام وما يشاهدونه تحت الأدراج في الجوالات من الصور والمقاطع ويحفظ عليهم أخطاءهم ونقاط ضعفهم ، أصبح يعرفهم أكثر من المشرف الاجتماعي في المدرسة . يعرف الانطوائي والاجتماعي ،الملتزم والمتحرر، الخلوق والغضوب ، الأخرق والكيس .. ! ومن هذا الموقع يخرج الكثير من أحلام اليقظة التي يحلم بإنتاجها في المستقبل ولا يزعجه أثناء استغراقه فيها إلا القليل من المعلمين وخاصة معلم التأريخ صاحب القدرة الفائقة على ذبح أحلام يقظته فلا تبعث حتى حصة أخرى ومعلم اللغة العربية الذي يزعجه و يأمره بالوقوف ويرغمه على القراءة والمشاركة في إعراب بعض الكلمات، يحاول صديقه أنيس أن ينقذه فيقول للمعلم أنا أجيب يا أستاذ ؟ فيرد المعلم :دعه يحاول يا أنيس وإن كنت تريد مساعدته فذاكرا معا وحاول أن تشرح له بعض أساسيات النحو .في الحقيقة أنيس يفعل ذلك كلما جلسا معا في بيت أحدهما في جلسات متباعدة ولكن استجابة المريض للعلاج ضعيفة . كان أنيس متفوقا وهو يحارب منذ سنوات للحصول على المركز الأول دون جدوى فقد سقط في خندق المركز الثاني ولم يفارقه بعد. كثيرا ما كان يغبط أنيس على ما هو فيه من المثابرة والجد والاجتهاد، لديه شعور أنه لو أراد لتجاوز أنيس هذا بسرعة ولكنه بدلا من منافسته يكثر من شيئين في أحلام يقظته سيارة الكاديلاك التي يركبها في كل حصة تقريبا وأحلام يقظته مع زوجته وحبيبه روحه ذلك الملاك الطاهر تلك اللؤلؤة الساحرة . لم يستطع أبدا البوح لأي أحد عن هذا السر وخاصة انيس إذ كيف سيخبره أنه يهيم في أخته . قبل يومين اختلف معها في حصة الرياضيات في أحد أجمل أحلام يقظته وكاد الخلاف بينهما أن يؤدي لطلاقهما لولا قرع الجرس !!وبالرغم أنه لم يشاهدها منذ سنتين بعد أن لبست النقاب إلا أنه يظن أنها تزداد جمالا يوما عن يوم . ليت أباه يوافق على خطبتها .. فقط خطبتها!! سأل صديقه أنيس مرة ماذا لو طلبت من أبي أن يخطب لي فتاة ؟؟ فقال أنيس أنت مجنون تخطب وأنت في الصف الثاني ثانوي ؟؟ .. ولكن أحمد تزوج في العطلة ألا تعرف ذلك ؟ ..أحمد ظروفه خاصة فأمه مريضه وتحتاج إلى مساعدة لها وأبوه أغنى من أبيك وأحمد أكثر التزاما وجدية منك . هذه الكلمة الأخيرة أشعلت الغضب في دمائه فهي تعني أنه لن يوافق على خطبة أخته فيما لو طلب يدها يوما وهو يفكر كثيرا في هذه العبارة : أكثر جدية منك .. أكثر جدية منك !! هنا يتذكرها تاركا المعلم والفصل في مكانهما ..... ترى هل لازلت غاضبة مني يا حبيبة روحي ؟ فتقول : أنت لا تحبني لو كنت تحبني لجلبت لي ذلك الخاتم .... خرج المعلم وخرج التلاميذ من الفصل وبقي شارد الذهن معها بضع دقائق أخرى حتى اقترب أنيس منه قائلا ألن تعزمني في المقصف اليوم ؟؟ فقال طبعا طبعا وكان يقول في نفسه أيها الصهر العزيز هي تشفط جيبي في الأحلام وأنت تشفط جيبي في المقصف !!.