إن من أعظم أسباب الانحراف والحيدة عن الحق في مسائل الدين- سيما المسائل التي تخص أمور الاعتقاد- البعد عن المصادر الشرعية المعتبرة، وهذا البعد يكون بالهجر والإعراض حينا، ويكون حينا آخر بالعبث بهذه المصادر وتغييرها وتغييبها، وأشد من هذا وذلك يكون باللجوء إلى مصادر بدعية دخيلة لا علاقة لها بمصدر هذا الدين ومنبعه.
وهذا المعنى فهمه رؤوس البدع وأهل الغي قديما وحديثا، ومن ثم سعوا بكل ما أوتوا من حيل إلى قطع كل سبب يُوصل بين المسلم ودينه، سعيا منهم إلى العبث بالمنظومة الفكرية والعقدية للفرد المسلم؛ ليسهل لهم مرادهم بعد ذلك.
ومصادر التلقي والاستدلال عند أهل السنة تدور على أصلين عظيمين وإن شئت قل إنها تدور على أصل واحد يتفرع عنه أصلان: فأما الأصل الواحد فهو الوحي، وأما الأصلان المتفرعان عنه، فهما: القرآن الكريم (كتاب الله)، والسنة النبوية الشريفة (المفسرة لهذا الكتاب)، وعن هذا الأصل وهذين الأصلان تفرعت عدة أصول أخرى.
وعليه فمصادر أهل السنة في تلقى مسائل الدين هي "الكتاب، والسنة، ويلحق بها الإجماع، ومذهب الصحابي، وتسمى هذه المصادر بالأدلة النقلية، وإنما كان هذا القسم من الأدلة نقليًا؛ لأنه راجع إلى التعبد بأمر منقول عن أمر الشرع، لا نظر ولا رأي لأحد فيه، وهناك نوع آخر من الأدلة والمصادر مرده إلى النظر والرأي، لا إلى أمر منقول عن الشرع، ويسمى بالأدلة النقلية، وهي التي ترجع إلى النظر، والرأي، وهذا ما يسمى بالقياس، ويلحق به الاستحسان، والمصالح المرسلة، والاستصحاب"(1).
وفيما يخص مصادر التلقي والاستدلال عند الشيعة الاثنى عشرية فقد كان الأمر مختلفا، ويرجع هذا الاختلاف إلى عاملين: أحداهما أنهم شككوا في القرآن الكريم فقالوا بتحريفه، وادعوا أن لهم قرآنا آخر يختلف عن القرآن الذي بين أيدينا، نحن أهل السنة، أما العامل الآخر فعائد إلى تكفيرهم لغالب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم بطل عندهم الاستدلال بمروياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك اختلفت مصادر تلقِّيهم لمسائل الدين، فكانت لهم مصادرهم الخاصة، التي جنت عليهم وعلى مذهبهم وطريقتهم، فأخرجت لنا شرعا مهترئا، وجماعة مشوهة في المعتقد والسلوك وطريقة التفكير.
سطو الشيعة على مصدر التلقي الأول (القرآن الكريم):
الناظر إلى موقف الشيعة من القرآن الكريم، يجده موقفا غاية في التخبط، وهذا التخبط عادة متأصلة فيهم، وفيما يخص الموقف من كتاب الله ذهب فريق منهم- وهو الأقل سوءا وعددا- إلى إثبات النص القرآني، وإنكار تحريفه، مع تحريف معانيه ودلالاته، أما الفريق الآخر، وهو الغالب عندهم، فذهب إلى القول بتحريف القرآن الكريم، وادعى أن لدى الشيعة قرآنا آخر غير القرآن الذي بين أيدي المسلمين.
يقول الشيخ محمد مال الله في هذه المسألة: "ذهب أكثر علماء الشيعة أمثال الكليني صاحب الكافي والروضة والقمي صاحب التفسير والشيخ المفيد والطبرسي صاحب الاحتجاج والكاشاني ونعمة الله الجزائري والأردبيلي والمجلسي وغيرهم من علماء الشيعة الاثنى عشرية إلى القول بتحريف القرآن وأنه اسقط من القرآن كلمات بل آيات حتى أن أحد علمائهم المتأخرين وهو النوري صنف كتابا سماه (فصل الخطاب في إثبات تحريف رب الأرباب)"(2).
أما من أنكر منهم وقوع التحريف، فبين العلماء أن إنكاره هذا ليس نابعا عن عقيدة صحيحة، بل عملا بعقيدة التقية التي يحتمون بها، حرصا منهم على عدم افتضاح أمرهم بين عموم المسلمين، وخوفا من عزوف شيعتهم عنهم وعن مذهبهم الفاسد.
وفوق هذا فالشيعة لا ترى أن القرآن حجة على الخلق، أو أنه صالح للاستدلال بغير قَيِّمٍ- بحسب ما جاء في كتبهم، وعلى لسان أئمتهم- فقد روى الكليني في "الكافي"– الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عندنا نحن أهل السنة- قال الكليني ما نصه: (أن القرآن لا يكون حجة إلا بقَيِّمٍ)(3).
والقِّيم عند الشيعة بحسب رواية الكليني هو علي رضي الله عنه، والقيم بحسب تفسير محقق الكافي هو: من يقوم بأمر القرآن، ويعرف ظاهره وباطنه، ومجمله ومؤوله، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، بوحي إلهي، أو بإلهام رباني، أو بتعليم نبوي.
وعليه فإن "الحجة" هي قول الإمام، لا النص القرآني، فللإمام أن يفسر النص القرآني بما شاء، ولو عارض هذا التفسير- ظاهر- القرآن وخالف مراده، ومعنى هذا أن قول الإمام أبين وأفصح من كلام الله عز وجل- تعالى الله عن هذا علوا كبيرا-، ولهذا فهم يرْوُون عن علي رضي الله عنه قوله: (هذا كتاب الله الصامت، وأنا كتاب الله الناطق)(4)، والأمر ليس مقصورا على علي رضي الله عنه، وإنما هو أمر ممتد إلى أئمتهم إلى أن ينتهي عند الولي الفقيه نائب الإمام صاحب الزمان- بحسب دعواهم-.
سطو الشيعة على مصدر التلقي الثاني (السنة النبوية).
الثابت عند أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوي، فكلامه كله وحي من الله، وهو مفسر لكلام الله، وعليه صارت السنة مصدرا ثانيا من مصادر التلقي والاستدلال، و"هي وإن كانت من الوحي، لكنها تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة أنه المنشئ لألفاظها، أما معانيها فهي من الله تعالى، إما أن ينزل بها جبريل عليه السلام، كما ينزل بالقرآن، أو ينفث بها في روعه..أو يلهمه إياها مناما، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أو يفعل باجتهاد منه في حدود ما تعلمه من معرفة بمقاصد الشرع، وقواعده الحكيمة، وهذا الاجتهاد إما أن يُقر عليه فيرجع إلى حقيقة الوحي، أو لا يُقر، فينبه إلى الصواب"(5).
لكن العبرة في هذا كله عند أهل السنة أن يثبت النص المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سندا ومتنا، وساعتها فإن العمل به يكون أمرا لازما، ويحكم على من أبى وردَّ قول النبي بالمروق من الدين- إن لم يكن جاهلا أو متأولا أو مكرها- ولا عذر لأحد كائنا من كان بعد ذلك في ردِّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره.
ولهذا سلكت الشيعة مسلكا خبيثا لرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقوم لم يجرؤوا على إنكار السنة صراحة وردها بوضوح، وإنما ذهبوا إلى الطعن في رواة هذه الأخبار ليسهل لهم رد حديثهم، فقال الشيعة بكفر صحابته صلى الله عليه وسلم- عدا عليا ومن والاه من الصحابة- وبذلك ردوا جل نصوص السنة وأبطلوا العمل بها.
ولم يعتبر الشيعة إلا طرقهم في تلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل زادوا في الأمر وتوسعوا وعدوا كل فعل أو قول أو تقرير من كلام أئمتهم، مكافئ لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرَّفوا السنة بأنها "كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريرا"(6).
ولم يقف الأمر عند المساواة بين كلام أئمتهم المعصومين- بحسب معتقدهم- وبين كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل قالوا بمساواة كلام أئمتهم لكلام الله عز وجل، والناظر إلى واقعهم وحالهم يتبين له أن كلام أئمتهم مقدم على ما سواه، وأن كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- إن وافق رأيهم وصح من طرقهم- يأتي في منزلة لاحقة.
يقول شيخهم المازندراني في شرحه لأصول الكافي: " إن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى، وجه الاتحاد ظاهر لمن له عقل سليم وطبع سليم؛ لأن الله عز وجل وضع العلم والأسرار في صدر النبي صلى الله عليه وآله، ووضعه النبي في صدر علي عليه السلام، وهكذا من غير تفاوت واختلاف في الكمية والكيفية"(7).
الولي الفقيه، هو مصدر تلقي الشيعة ومنبع استدلالهم:
قبل عصر الخميني لم يكن لمصطلح الولي الفقيه هذا المدلول الذي اكتسبه في دولة ما بعد الخميني، التي أقامها الإمام "الطريد" على قواعد الدولة الصفوية القديمة، حيث اكتسب هذا المصطلح مضامينا جديدة، وأبعادا انقلابية، أحدثت- فيما بعد- ثورة دينية "شيعية" موازية للثورة "السياسية" التي قادها الخميني ضد نظام الشاه.
ومنذ هذا العصر وللولي الفقيه سلطان على كل القوانين، وكل المبادئ، وكل النصوص، فليس بعد قوله قول، ولا مرد لفتوى أفتى بها، أو رأي قاله؛ لأنه نائب الإمام صاحب الزمان الغائب منذ سنة (260هـ)، فللولي ما للغائب من العصمة والطاعة والقداسة.
وبهذا الأمر انتقلت كل صلاحيات إمام الشيعة الغائب– المعصوم- إلى الولي الفقيه، وبهذا جاز له أن يقبل ما يشاء من النصوص، ويرد ما يشاء، وليس لأحد كائنا من كان، أن يعترض على أمر قال به وخرج منه؛ ليتحول الولي الفقيه في الفلسفة الشيعية والفكر الشيعي من مرحلة الولي (ناقص الصلاحيات)، إلى مرحلة (الولي الإله)، الذي يشرع لنفسه، ويأمر فيطاع.
بل تحول كل "معمم" في دولة "ما بعد الخميني" إلى ولي فقيه، يقول الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية": "إن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تأهلهم للنيابة عن الإمام المعصوم"( 8)، ويضيف الخميني: "هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، ومن يتخلف عن طاعتهم، فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك"(9).
وبصفة عاملة يمكننا القول: أن الشيعة لم يتوقفوا في يوما من الأيام عن اتباع مبدأ النفعية، ذلك المبدأ العابث بكل قيمة، وكل مقدس، ولو أدى هذا الأمر إلى ضياع الدين وذهاب أصوله، وبهذا يتضح أن الشيعة وإن كانوا يرجعون في بعض أمورهم إلى نصوص الشرع (قرآن، وسنة) إلا أنه لا قداسة لهذه النصوص عندهم إن خالفت المصلحة الشيعة التي يراها الولي الفقيه، فمذهب القوم مذهب عقلي بحت قائم على المصلحة لا على ضوابط الشرع وأصوله.
ــــــــ
الهوامش:
(1) مصادر التلقي وأصول الاستدلال العقدية عند الإمامية الإثنى عشرية- عرض ونقد- إيمان صالح العلواني: (1/27)- دار التدمرية- بتصرف.
(2) الشيعة وتحريف القرآن- للشيخ محمد مال الله: (ص:63)- دار الوعي الإسلامي- بيروت.
(3) الكافي للكليني: (1/169)- تحقيق: علي أكبر الغفاري- دار الكتب الإسلامية- طهران.
(4) وسائل الشيعة للحر العاملي: (27/34)- طبع مؤسسة آل البيت- قم.
(5) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة- عثمان علي حسن: (1/85-86)- مكتبة الرشد.
(6) الأصول العامة للفقه المقارن- محمد تقي الحكيم: (ص:122)- مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر- ط3.
(7) شرح أصول الكافي للمازندراني: (2/225)- دار إحياء التراث العربي- بيروت.
(8) الحكومة الإسلامية للخميني: (ص:113).
(9) المرجع السابق: (ص:80).
_______________________________________________
بقلم رمضان الغنام
مركز التأصيل للدراسات و البحوث