في ظلالِ صورة
ذهبَ منَ الليلِ نصفهُ إلا قليلاً
أعتكفُ بزاويتي التي أُدين لها بجوِ
الخلوةِ النادر!! أِسندُ فَكَيِّ بينَ كَفّي ..
وأُثبتُ عيني بمُقلَتيها!!
لحظاتٌ سحريةٌ أخطِفُها لأتأمل هذهِ
اللوحَةَ قبل أن يٌباغتنًني الهجومُ الضاري لهمومِ الحقيقةِ الواقعةِ!!
أمْضيتُ أربَعَة عَشَرَ أُسبوعاً أرسُمُ هذه الصورة..
لستُ فناناً بارِعاً ومُتمكِّناً ..لكن
أمارسُ هذه الهِوايَةَ كمَنْفَذٍ أهْربُ إليه
من سَراديبِ اليأْس المُعْتِمَةِ !!
أتْممتُ رَسْمَها منذ أسبوعٍ فقط ..
إطارٌ ذَهبيٌّ لامِعٌ ..خَلفِيَّةٌ حزينةٌ
بِمنَظرِ الأصيلِ الذي يُوحي بِسحائبَ تَأَمِّل !!
الصورةُ فتاةٌ ساحرةٌ ..الظاهرُ منها
وَجْهٌ حيٌّ يبْعَثُ في النَّفسِ الارتِياحَ !!
قَمَرٌ بَيْضاويٌّ أبيضٌ يَتوَسَّطُهُ
خُرطومٌ ماسيٌّ يَقْسِمُه إلى أربَعِ جُزُرٍ دُرِّيَة !!
عن يمينِ وعن شِمالِ تَرْبُضُ وَجْنَتانِ
تَتَأَلقانِ بِحُمْرَةٍ خَجولَةٍ !!
تتفتَح الشفتانِ المُزهِرَتانِ عن ثَغْرٍ
كَحَبِّ اللؤلؤِ المَكْنون !!
يَتدفَّقُ أَسفَلَ الجَبهةِ الغَراءِ يُنْبوعانِ
منَ العَسلِ المُصَفّى !!
حَدَقاتٌ واسِعةٌ..رُموشها كالسِّنانِ-
حارسةٌ!!
نًوافِيرُ سحرٍ خَضراءُ تقْذِفُ بحِمَمِها
تَحرقُ كلَّ القُلوبِ الغَضَّةِ !!
نَهرُ مَحبَّةٍ يَتَحدَّر حُزْناً ودِفْئاً وَتوسُّلاتٍ !!
جَدولٌ طَموحٌ يَرحَلُ الى المستقبلِ
الصّاعدِ "كالجُرْنق"!!
خُطوطُ هذه اللوحةِ بارزةٌ .. ولكنها
عميقةٌ !!
ألوانُها خَفيفَةٌ.. رُغْمَ غُموضِها
اللامُتَناهي!!
أمسكتُ بريشتي المُتصابيَةِ وأرسيْتُ
عَليها رُتوشاً مُتناثرة..
أَضافت للوحةِ فَضاءاتٍ جديدةٍ ..ربما
زادَتها غَرابَةً!!
وربما تَطاوَلتْ على هَيْبَتِها المُزركَشِةِ
بِمزايا العَقلانيةِ الناضِجَةِ !!
لكنها في نَظَري إضاءاتٌ لا بُدَّ منها ..
لِتَبْقى هذه اللوحَةُ ذِكرى..
تَجْمَعُ الحُلُمَ بالواقِعِ !! تُذيبُ قَسْوةَ
الحقيقةِ في ربيعِ الخَيالِ !!
وحيدَانِ في عَتْمَةِ اللَّيل .. جالَسْتُها
أُحادِثُها ..
بَدأتُ أبوحُ لها بِهْمسٍ عُذْريٍّ خَافتٍ !!
شَرَحتُ لها وأنا أخشى أن يَمَسَّ
طهارَتنا الكلامُ !
عن صَرحِ الخَيالِ الذّي هَوى !!
عن حَيْرَتي .. قَلقي .. بَراءَتي .. ودَمْعاتي!!
عن سوءِ حالتي..وَضْعفِ حِيلَتي !!
عن رزانَتي الماضيَةِ وَطُفولتي الحاضِرة !!
عن فَرْحةِ المولودِ البِكْرِ .. وفَجيعَة
الثكل الأكبر!!
ابتسمتُ قليلاً بِصعوبةٍ ! .. وبَكْيتُ قَليلاً ..!!
ثم قَفَزَ السؤالُ ..أين سأُعَلِقُها؟!!
تَخَيَّرتُ الأماكنَ ..بَحثتُ على الجدران .. أيها الأدفأ لاحتضانها..؟!
سأُغلِفُها بِزُجاجٍ ذَهبيٍّ شَفاف.
وأركُزها بينَ المرايا..فما على كلِّ المرايا شُعاعُ الروحِ يَنْكسر!!
لكن هذا لن يَمْنَحَها خُلود الموناليزا!!
فما العمل..؟!
بدأ الخيْطُ الأبيضُ يزاحمُ الخيْطَ الأسودَ من الفَجْرِ .. فجاءَ الخاطِرُ من رَحِم النُّورِ الإلهي :
القلبُ خيْرُ حافظٍ!!
نعم حضنتُها بِأضلُعي المشْتعِلةِ !! ثم
طَبعْتُ قُبْلةً حارةًّ على جبينها!!
..نظرتُ إليها النَّظرةَ الأخيرةَ بعيونٍ
تَمْلؤُها الدُّموع !!
..مَزَّقتُ اللوحةَ العاريةَ .. ورَميْتُها بِلا روحٍ في مَهبِّ الرِيح !!
قَبلَ أن يَهبَّ نسيمُ الصباحِ الرقيقِ
لِيحمِلَها على أكُفِّهِ نَحْو النَهارِ المُشرقِ!!
وَ يَتركَني وحيداً .. أخط طَراطيشَ الظَّلالِ !!
في ظلال صورة
خالد معاط