تراقصت شمعة الفانوس في يد الطفل وهو يميل بقدميه الصغيرتين يمنة ويسرة متتبعا أمه وهي تردد بين الفينة والفينة بصوت أمومي متضايق : أسرع بني ... أسرع ..سر ... سر. وتردد المعوذات وآية الكرسي وتحوقل كثيرا، كان يلعب بالفانوس وكانت تتابع خطواتها على أشعة ضوء النجوم في ليلة غاب القمر فيها مع حبيبته . بدا من آخر الزقاق شاخص قادم فالتصق الطفل بأمه وحشر الفانوس بينهما حتى كاد أن يطفئه وتابعت الأم طريقها وهي تمسك بيد طفلها في قلق واقترب الشاخص رويدا ورويدا فبدا رجل مطأطئ رأسه في الأرض وانتحى جانب الطريق فاسحا الطريق للمرأة وابنها ، شعرت المرأة بارتياح فأطلقت يد طفلها فعاد للتلكؤ من جديد !يتتبع بضوء الفانوس حشرة هنا وجحرا هناك .. يمران بجانب بيت العزيز الرحمن فتخرج من نوافذه أصوات تراتيل دينية شجية :
يا ربنا اعترفنا بأننا أسأنا وأننا أسرفنا على لظى أشرفنا
فتب علينا توبة تمحو لكل حوبة ....وآمن الروعات وو ..
تكاد قدما الطفل أن تتوقفا عن الحركة وهو يتابع بدهشة الصوت الشجي وإن كان لا يفهم مما يقال كثيرا ، تلك التراتيل تحفر لنفسها عميقا في ذاكرته .بعد زقاقين تدخل المرأة بيتا مفتوحا بابه ويتبعها الطفل فإذا بالكثير من الأطفال ذكورا وإناثا تلبس الإناث ثيابا طويلة ساترة وفضفاضة، يحملن الكثير من الأوعية الصغيرة . تشق المرأة طريقها بصعوبة في الحشد ويتبعها الطفل يجر أحمال الدهشة وتنزع أمه الفانوس وترفعه فوق الرؤوس لتطفئه وعند درج البيت تقول له بصوت مرتفع يفرق ضجيج الحشد الذي يصم أذني الطفل : أنا في الأعلى إذا انتهوا اصعد إلي ! يهز الطفل رأسه وهو يعي نصف الكلام معلقا عيونه الصغيرة بحشد الأطفال الملونة ثيابهم كانوا يقولون بنغم طفولي مميز : (هاتوه من فوق السطوح .. هاتوه وإلا سنروح) . وبعد الكثير من المقاطع الجميلة المماثلة والمختلفة خرجت امرأة مع الدرج تحمل مكتلا كبيرا من الحنظل والفشار والسكر والحلوى ووزعتها على الأطفال . كانت الإناث أكثر ضجيجا وكان الذكور أقدر على انتزاع حصصهم من (ختامي رمضان) مدّ الطفل يده ولكنه لم يكن لديه وعاء يضع فيه حصته فقالت له المرأة: قدّم ثوبك – يا حبّوب- فعطف قميصه لتضع له حصة لابأس بها. بعد انصراف الأطفال صعد يبحث عن أمه . كانت حولها الكثير من النسوة يشربن الشاي ويقرشن الحنظل في دعة ويتحدثن بأصوات متداخلة أحيانا . قالت إحداهن : أهذا ابنك؟ ردت أمه نعم ثم أردفت لقد أخّرني في الطريق ولكن لابد من أنيس ؟ قالت لها: وما عليك في رمضان ؟ الحمد لله ما آمن رمضان ! هزت أمه رأسها كالموافقة ثم التفتت يمنة واستأذنت من امرأة أخرى في الخروج وقد حاولت الأخيرة أن تؤخرها قليلا دون جدوى ......
انتبه كالمذعور بعد استعادة ذلك المقطع الجميل من طفولته ، لقد أشرقت الأرض بنور الكاشفات الحمراء في شوارع المدينة، فأنت ترى المقبل نحوك وتستطيع رسم لوحة تفصيلية لتقاسيم وجهه وهو بعيد من شدة الضوء ! وأصبح الشاخص أكثر فضولا وهو يحاول اختراق نقاب المرأة وهي تمر بجانبه ليعرف خطوط وجهها الجميل خلف النقاب ، وانقسم الناس في بيوت الرحمن أقساما كثيرة ولم تعد التراتيل الدينية تُسمع إلا في مساجد الصوفية فقط . ولا يمكنك أن ترى اختلاط الذكور بالإناث هذه الأيام في (ختامي رمضان ) فالذكور من الأطفال يعرفون أكثر مما ينبغي عن علاقة الذكر بالأنثى، والاناث مع ذلك يلبسن (الشورت والمكرّع والجينز) وملابس تصف وأخرى تشي بكل ما أمر الله بستره ، انحدرت دمعتان من عينيه على ذكريات الحشمة والتقوى والصلاح ورمضان زمان وتمنى لو بقي غارقا في الذكريات أبد الآبدين .