بعد أن اطمأن قلبي على والدي وقد هجع بين أغاريد الأصيل، غطّيته بنبضي وبزهر الرّمّان ثم جمعت حقيبة سفري، لم أضع فيها غير باقة من ورد وقليل من رمال الشاطئ و من ماء البحر الذي كنت أحتفظ به وصَدَفة صغيرة ربما تحمل أسراري كلها، وامتطيت جواد الريــح...
اقتربت قليلا من المضارب، كان كل شيء هادئا..اقتربت قليلا والفضول يصنع بداخلي عطرا من الخوف..تُرى ماالذي سيفعلونه بي؟ ما هو المصير الذي ينتظرني؟ أأعود إلى مدينتي وأحاول أن أنسى أم أواجه مصيري؟ ولكن ماذا أفعل بحنيني لقبيلتي الذي رقد فيّ زهاءَ ألف حزن؟؟؟؟وهاهو يشتعل مرة أخرى بعدما أضناني الترحال وسقطت روحي صريعة الحنين...
اقتربت قليلا، وقربَ نخلة متدثّرة بالتمر، لمحتُ الشمس مختبئة، ترتب تجاعيدَ حزنها في المرآة، لماذا تخفي وجهها عني؟ ألم تعد راغبة في الحديث إليّ؟ أم أنها خائفة من أن يكون حديثي وإياها آخر عهد لنا معا؟ وتتابعت خطواتي وأنا مطرقة، أدغدغ وردة بيضاء بين أناملي، أحدّثها وهي تنثر في قلبي دفءَ الحنان، وتغسل وجهي بقطرات الندى التي خبّأتها لي صباحا، وفجأة وأنا أتابع طريقي إلى القبيلـة، لمحتُ القمر واقفا بين الغصون، لم يكن يختبئ مني، لكنه كان يكفكف دموعا اعتلت عرش وجنتيه، واغرورقت إثر ذلك بروحي بسمةٌ حـرّى، إنه يمسح سجمه بمنديلي الذي أهديته له ذات مساء..أجل، كان هديتي إليه، طرّزته له بالنجوم وبقلبي، ووضعت زهرة اللوتس بحواشيه، إنه مايزال يحتفظ به..إنه يحفظ العهد...
اقتربت منه دون أن يدري، وقد قفزت دمعة ساخنة إلى بستان قلبــي لتسقيه، والتفت إليّ والصمت يطرّز جبينه، لم ننبس معا ببنت شفة، بل ظللنا واقفين بمحراب الصمت، لاحديث بيننا سوى همس الدمع والخوف، وكأنه كان يعلم أنني أمضي إلى المجهول إلى غروب قد لا يعيدني أبدا انتقاما مني، فقد كنتُ أهوى الوقوف على صخرة الشاطئ لأراقب الشمس وهي تنزل مكرهة من خطوها، لتحلّ ضيفة على سعار الجـــرح، وقد ارتدت رداءً أحمر وفكّت ضفائرها، وأسدلت ستائر سهدها...
وقبل أن أدخل القبيلة، فاجأتني النجمة الأولى التي كنتُ أداعب خصلات شعرها كلما جافاها الكرى، كلما خضّب كفيها بحزن الغمام، جاءت تسألني العودة إلى مدينتي، وقد أهدتني إكليلها لأكون مكانها نجمة بالسماء مقابل العودة...لكن كان لابدّ من مواجهة المصير..
ودخلتُ القبيلة، ولم تكن هادئة كما ظننت، لقد كان رجال القبيلة يحتفلون مجتمعين بانتصارهم في غزوة من الغزوات، ينشدون شعرا ويضحكون، ولكنهم ماإن رأوني حتى احتبس الرحيق بصدورهم، وتوارت الضحكات مختبئة خلف وجوهٍ عابسة، وسرعان ماوجدت نارا تستعر في وجوههم كادت تنزعني عني، واقترب زعيم القبيلة مني وصرخ فيهم: لقد عادت ..ألم أقل لكم؟..
ووضعوا في يديّ السلاسل والأغلال وأقسموا بأن ترحل روحي مع أول نسمات الفجر الأولى، ولم تُجْدِ توسلات العجائز، ولا الأطفال ولاالنجمة الأولى ولاالقمر ولاحتى البحر الذي كان على استعداد لهجر كل موجه وصَدَفه ورماله من أجلي، صمّمت القبيلة على تنفيذ الحكم الذي صدر بحقي منذ الأزل، منذ أهدروا دمي، منذ ذلك اليوم الذي أعلنتُ فيه عشقي شعــرا وكسرت تقاليد القبيلة، إنهم لايعترفون بالهوى العفيف ولايؤمنون بوردته البيضاء، إنهم لم يقبلوا ذلك من رجالهم، فكيف من نسائهم؟ ولم يقبلوا بذلك، وقد كنتُ أهذي بهواي وعبيرُ السعادة يعطرني، فكيف الآن وقد عدتُ بعبير الجرح؟ كنتُ أعرف أن الموت سيكون مصيري، وقد عدت إليهم والحنين يكاد يقتلني، كنت أطمع أن أقنعهم بأن الهوى العفيف يبقى نبتة خضراء، عطرةَ الأفياء، حتى وإن شوّهوا ملامحه في زمن كهذا، إنه نورٌ قرمزي قادم من أرض الأحلام، أرض الخضرة والماء الزلال، قادم من جزيرة الصبح، يبني ولايهدم، يسكب عطرا لاملحا، في زمن رحلت عنه أناشيد الصفاء..وتذكّرت ليلى وقيسا وقلبيهما الطاهرين، وأحسست وكأن روحي غدت ريشة هائمة في سماءات الغياب..آهٍ من ظلم ذوي القربى:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهنّد
حين أعلنت عشقي شعرا، وذاع ذلك بين القبائل، كنت أرنو إلى أن أعيد عهد الهوى الضائع، عهد الهوى الجميل الذي لايحتفي إلاّ بفصول الرحيق وطقوس الورد وهديل اليمام، لكنهم لم يهتموا لذلك وصمموا على إراقة دمي.، لَكَمْ وددت أن تصرخ معي الأطياف والأكوان والأشعار ، أن تصرخ معي الجبال والوديان والبحار والأنهار، لكم وددت أن تكون أمي هنا لتدافع عني كما كانت تفعل دائما، ولتخبرهم أن الهوى العامري قطوفٌ من زمنِ النقاء، وأن ثماره أغنية يعزفها الطير على أفنان الشجر كلما "الغيثُ همى" ...
هجع الجميع وأُطفئت كل الأنوار، وبقيت وحدي مكبّلة اليدين والقدمين، تهبّ عليّ نسائم الليل الباردة، تعبث بخماري، وتقترب مني نجمات السماء، تنثر في قلبي اللوعة والشجن، لم يحزنني حالي ومصيري الذي بتّ أراه قريبا مني، بل أحزنني مادغدغ أفئدة من أحبهم، النجمة الأولى التي كنت أسهر وإياها في شرفتي أحدّثها وتحدّثني، أسمع شكواها وأضمّد بوحها الجريح، أضع معها الضوء، أرتبه في درج كل عابر سبيل دون أن يدري، والبحر، هذا الأنيس الرقيق الذي كان لي عزاءً، كان يحملني على موجه كفراشة تغازل رحيق الأزهار، أو كيمامة تفكّ ضفائر بوحها على مهل، قبل أن تخرج القصائد من طوقها ثمرا قد اشتدّ عوده ، أو كبنفسجة تتعلم لغةَ الورد لأول مرة، أو كنجمةٍ كتبت أول سطر بدفتر مذكراتها خفية، لكي لا يرحل عنها الضوء، أو كقصيدة تعلّمت كيف ترتب شطريها وتنثر فيهما بذور البوح...البحر، هو من علّمني لغة الموج والرمال، لم يكن يرتاح إلاّ حين يرتب ملامح قلبي، ليرقد فيها قرير العين والفؤاد، وقد أضناه ظلم الناس وبعدهم عنه، والورد، كان يتفتّح كل فجر فتتفتّح معه الفصول كلها، وتزهر تقاسيم الدنيا بأكملها بالرغم من آلامه، ولكنه لايبوح إلاّ قليلا، والقمر، لقد أغرق وجهه في كفيه...ماالذي سيفعله بعد رحيلي؟ إنني أخشى عليه كما تخشى الأم على وليدها، والحمامة التي ألفت شرفتي، وكانت كلما هدّها الشجن، تأخذني في رحلة إلى مضارب قبيلتها هي الأخرى لتحتفل بي حبا وإلفًا، ماالذي ستفعله الآن، ومن ذا الذي سيهدهدها في حِجره، كرضيع يتعلم ابتسامة الرحيق؟ والشمس التي تعوّدت أن تطرق الشرفات المغلقة، وبيدها باقات النرجس، وبيدها الأخرى حفنة من البسمات، أين سترقد، وقد كانت تطرق باب قلبي لتنام في أفضل حجرة من حجرات نبضه، كلما خاصمها النهار وطردها من جنته؟ والفجر، من سيحمل إليه الجرّة التي يملأها الطلّ بالشوق، في الموعد نفسه، حين تكمل دقات القلب دورتها، ليبثّ الأزهار لواعجه؟ فقد تعوّد أن أصنع له كل يوم جرّة من الصّدّف المغطّى بالياسمين ..أحملها له على كتفي ، من بيته إلى بيت الورد الذي لا يستيقظ صباحا إلاّ إذا لامستْ أهدابَه الرقيقة قطراتُ الندى الحلوة، يغسل بها كل ماعلق به من أحزان المساء وأشجان الشتاء...
وقفوا جميعا قربي، والصمت أيضا ظلّ واقفا معهم يرمقني، وقد أُسقِط في يده، ربما يفكرون في إنقاذي من هذا المصير الذي بات محسوما، ولكنهم يعلمون أنني لم أحبّ يوما الهروب من قدري، حاولوا قدر المستطاع أن يقنعوني بالهرب، فهاهو البحر يقسم لي بأنه على استعداد لسجن الملح بكل الأصداف التي تزيّن بوحه، كما سبق أن طلبتُ منه ذات وجع، حين عصرتني آهاتُ الجرحى، والورد أقسم أن ينزع عن جسده الشوكَ للأبد لكي لايتأذى أحد أبدا، كما طلبتُ منه ذات جراح، وقد كنتُ أول من نَزَفَ على يده، واليمامة أقسمت أن تعلّم الناس كلهم لغة هديلها، كما طلبتُ منها ذات شتاء، حين أحزنتني قلعة الوحدة التي ينفي فيها الحزانى أرواحهم بعدما فقدوا صفاء العهد الجميل، والنجمة الأولى وعدتني بألاّ تضنّ على أحد بضوئها كيفما كان وجعها، ومهما غالبها النعاس أوأرهقها المطر، كما طلبتُ منها ذات خريف، حين أشعلت روحي ملامحُ الشحوب التي سكنت قلبَ طفل..حلمَ بالضوء وارتحال حلكة الخوف عن دربه، والقمر، وعدني هو الآخر مثلهم جميعا بألاّ يحجب سناه عن المارّين، حتى وإن ألحقوا به الأذى، وبأن يكون متسامحا لأقصى حب، كما سبق أن طلبتُ منه ذات بوح ، لكي تظلّ الوردة البيضاء التي زرعها البحر بقلبه، مبتسمة الأسارير، مشرقة، تسقي العشاق دوما من رحيقها العذب...
سعدت بحبهم جميعا، ولكنني لم أستطع أن أهرب من مصيري، فهل يغني حذر من قدر؟ وهل أتعبَ روحي غير الترحال المتكرر والقلبُ يئنّ من وجع النوى، والنحول يرتديه، والشوقُ يكتحل به؟ أليست قبيلة بني عامرهي التي علّمتني لغة الهوى؟ وكيف أرسم على تقاسيم روحي قصائد الورد، لتكون لي درعا ضدّ الرماد ؟
حتى وإن كان الرحيل قدري، فسأستقبله باسمة الثغر، باسمة الفؤاد، ويكفيني أن الهوى كان أغرودة روحي، سافرت بي على أجنحة الخيال وأكمام الأزهار وسقتني رحيق القصيد، بالرغم من قسوة الأحباب وظلمهم...
وأنا أهمس بهذه الكلمات، اقترب مني البحر يجرّ أمواجه جرا، متهالك الخطو، منهار القوى، ونزع السهم الذي غرسه في غفلة مني حبيبُ الأمس، فانهمل النزيف زلالا يسقي أرض القبيلة، وغارت عيناي وغارت بي الروح، ومرّت أمامي سنواتي تحتسيني، فكادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن تلفظني، ولمحت أنفاسي متقطّعة كجراح عمري، وصوتي المبحوح يذكر آخر نبضة اشتعلت عند المغيب، ويذكر أول نسمة حنان صافية هدهدت سهري والبحر، كل ليلــة، على مشارف ضوء جديد، اقتحم قلعة أســراري الجريحة، لأول مرة، بعد مرور ألف حزن...
حاولتُ أن أسأل البحر واليمام والورد والقمر والنجوم والشمس الرحيلَ لكي لايعذّبنا الفراق، وحاولت أن أضع بين أيديهم باقات ضماد، أحضرتها من بلاد العجائب، ولكنني لم أستطع، إذ سرعان مافضحتني دمعة حرّى غسلت وجهي، فأعتَقته من بسمة طائشة، لكنني سألتهم تنفيذ ماوعدوني به، بالرغم من عدم امتثالي لشرطهم، كي ترقد روحي مطمئنة...
وأطلّ الفجر أخيرا، وأطلّت معه ابتسامة الرحيل، وأغمضتُ عينيّ لبرهة، أتوسل إليهم الرحيل لكي لايزداد عذابي ، فماأحببت الوداع يوما، ثمّ فتحتهما مرة أخرى، وكانوا قد رحلوا أخيرا..ولكنهم تركوا لي جرارا من السجم المراق، ووجدت قصائد طويلة كُتِبَت بمداد الروح وحبر الألم، ووجدت ماأثلج صدري وأعاد إليّ زهرة الجلنار، بالرغم من نداء الرحيل المرّ، وجدتُ قلب البحــر، أجل، لقد ترك لي قلبه في باقة من الصّدَف النائم، وعليه إكليل من الورد، أبى البحر أن يكون قلبه لأحد غيري بعد رحيلي، الآن أعلم لماذا كان البحرغيورا عليّ ، والآن أدركتُ أن الوفاء لم يكن إلاّ نبضة من نبضات البحـر، تاهت منه ليلةَ كان يجمع بوحه في حقيبة السرّ.، فأدركه الصبـــح قبل أن يخبّئها، فرحلتْ كالطّير تغرّد هنا وهناك...
وبينما كنتُ غارقة في همسي وروحي تستعدّ للقاء المصير، تجمهر رجال القبيلة حولي، ينتظرون تنفيذ الحكم الذي صدر ضدي منذ ألف حزن، ووقف زعيم قبيلة بني عامر يحدّق فيّ صامتا، وألفيتُ بتقاسيم وجهه لوحات أخرى غير التي رأيتها ليلة أمس...تُرى، هل سيعفو عني؟ هل رقّ قلبه أخيرا؟؟؟...