ما أثقلَها هذه القافلة وأشدَّ وطْـأتها على نفسِه وأَعْصابِه ..لكنْ ما من بدٍّ إلا أنْ يمْتَطيها كلَّ يومٍ مرّتين ذاهباً وقافلاً ما بينَ مسْكنِه وعملِه..
تلك زحمةُ السّير.. ولا مفَرَّ منها إلا أنْ يكون فيها..! وما عليه إذنْ وهو يقودُ سيّارتَهُ ببُطْءٍ شديدٍ إلا أن يلوذَ بالصّبر أوْ أن يُسرّي عنْ نفسِه تارةً بالمذياع وأخرى بما حولهُ مستطلعاً أوْ متأمِّلاً ..
..كانَ السِّربُ المقابلُ منَ السّياراتِ مزدحماً كذلك .. وكانَ يجولُ ببصرِهِ على غيْرِ هدىً ليقتل َ مللَ الإنتظار عندما توقَّفَ بصرُه على وجْهِ غَيداءَ رائعةِ الجمال تجلسُ في الحافلة في السِّربِ المقابل.. كان يزيِّنُ صفْحةَ وجهِها منديلٌ تتقمّطُ به يتهدّل كعارضِ غيم ٍ أبيض على جانبِ البدر.. وعينان واسعتان ترسلان نظراتٍ قصُرتْ عن مدى أبعدَ من نافذةِ الحافلة ..وهي من حينٍ لآخر تتحرّك ُ في دَعةٍ و ترمي ببصرها إلى الأسفل..
أَثارتْ صورَتُها في نفسهِ منابعَ برْكانٍ طالَما جاهدَ أنْ يخمدَه ..ليسيرَ القلبُ والبصَرُ حينَها في سِرْبٍ آخر تخطّى زحمةَ السّير.. خطُّ عرقٍ ساخنٍ مرّ على جَبهتِه.. وانطلقتْ دفقاتٌ نبضٍ تعلنُ رضوخَ قلبِهِ لثوْرةٍ قادتها العيون.. أرسلتْ تلك الدفقات يدَهُ فارتفعت في رَعشةٍ إلى مستوى عينيهِ المسلَّطتينِ نحوَ الحافلة.. حتّى خَرجَتْ من نافذة السيّارةِ لتومئَ بإشارةٍ تنتظرُ من يستقبلَها ..
لم يطُلِ الوقتُ حتّى التقطتْها من بالحافلة ..سحائبٌ سوداءٍ كدّرت ْوجه البدر..لكنّهُ لم يزلْ على وضاءَته ..رمت ببصرها للأسفل كدأبِها .. أومَأتْ بِرَأْسِها ثمَّ انخفضَتْ كأنَّها تتناولُ شيئاً ..رفعتْ يدَها نحوه ..ينما كان يحدّق ببصرهِ وتطلقُ أنفاسهُ دفقاً من اللهثات، ..ها هي كفّها ترتفع... لكنّها حمَلتْ بينَ أصابعها يداً صغيرةً كانت كافيةً لتسدّ منافذَ عينيه.. همَدَ البركان..بعدما أسال حمماً في أحشائِهِ ليغمضَ جفنيْهِ على احتراق .. ثمّ يتوارى بعدَ انفراجِ زحمة السير. .!