هذه خواطر رمضانية كنت أفكر بوضعها في قاعة النثر ، ولكنني وجدتني أذهب إلى قاعة الدعوة ؛ لأنني أرى أن هذا مكانها:
كنت أراه دائماً في المسجد في الصلوات كلها لا تفوته صلاة، وفي رمضان كان أحمد، وهذا اسمه الذي عرفته منه بعد انتهاء صلاة التراويح، حيث بادرني بالسلام، فرأيت النور يشع من وجهه، وتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: .."شاب نشأ في عبادة الله..".
كان يعتكف في المسجد على مائدة القرآن الكريم، حيث نمت عواطفه، وتسامت روحه، يهمس في أذان الدجى كلماته مناجياً خالقه، وهو فرح بدموعه، مغتبط بلوعته، سامع لنبضات قلبه، ناظر إلى ما وراء الأشياء، حيث يلوح الفجر، وترتجف السكينة، ويسيل النور الرباني بين دقائق الأثير..
لا تمر دقيقة حتى يشعر بدقات قلبه، وتضاعف اهتزازات روحه، مثل راقد أجفلته حروف معجزة.. وكأنني به وهو ينحني على المصحف كمن يلقي رأسه على صدره الحنون كمتعب وجد الراحة.. ثم يرفع رأسه لينظر إلى الأشياء نظرة من يستصغر الكلام المتعارف عليه بين البشر بجانب عظمة كلام الخالق.. فيتحول الكلام بين يديه أرواحاً في أجساد من ألفاظ.. تستحضر حروفه رسوم أحلام لطالما رأها في نومه، وشعر بأجنحة غير منظورة قد حملته من مكانه إلى مكان أعلى وأسمى..
يشعر أنه صرف معظم عمره في الأماكن الآهلة،يكاد لا يعرف أي شيء، وإن كان يظن أنه يعرف كل شيء.. عندها يقول: نحن أكثر من الصالحين عدداً، ولكنهم أشرف منا نفوساً، و نفوسهم مثل مرآة صقلية تعكس محاسن بواطنهم، وأصواتهم الخافتة في سكينة الليل هي رجع صدى الأصوات العظيمة..
كنت أنظر إليه بلهفة فأرى فمه المفتوح للقراءة بهمس كأنه جرح عميق في صدر متوجع، وقامته المنحنية على مائدة القرآن كأنها غصن من الورد الذابل بين الأعشاب النضيرة، وعلى ملامح وجهه ابتسامة تصدر من أعماقه فتظهر على شفتيه، ولو تركها وشأنها لتصاعدت وانسكبت من مآقيه..
تستقبل مسامعه كلمات الخالق فتمتصها عواطفه مبتدعة صوراً مليئة بالحزن على ما مضى والفرح بما هو آت.. ذلك الرجل الذي كان بالأمس يصرف شبيبته على أكف الأمن المصطنع، ها هو بقلبه المسحوق أمام بوابة التوبة..
يعيش مع القرآن ليعتقه من عبودية الحياة، ويسيرحراً في موكب المؤمنين؛ لأن المحبة هي الحرية الحقيقية في هذا الكون، ولأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه ملهيات الدنيا، وتقاليد الناس والسكينة التي تلفه كانت وشاحاً معنوياً يرتديه فيزيد محاسنه هيبة ووقاراً.
بعدها عرفت:
أن من يقرأ القرآن ويأنس إليه تنعقد شفتاه عما سواه، فيستأنس بالسكوت؛ لأن الشعور العميق غير المتناهي الذي يحدثه القرآن يخرس الألفاظ الأخرى، فيسمع الإنسان في السكينة مناجاة قلبه، وتواصله مع الله.. وعندما يتوارى النهار ويقدم الليل ناشراً أخيلته بين البيوت تستيقظ الميول العلوية الهاجعة في أعماق قلوب القارئين..
إن أعمارنا تضمحل كالضباب، وأيامنا تزول كالفيء، ومع ذلك نتمسك بأذيال الحياة، وتتشبث بأهداب العمر، متأسفين على ذهاب الأمس، وخائفين من سرعة اليوم، مترقبين مجيء الغد، فيجمعنا رمضان على مائدة القرآن، ليرتفع بأرواحنا إلى العلياء، ونحن نشدها لتلحق بالرماد وتنطفئ.. يهب لنا القرآن أجنحة لتطير أرواحنا سابحة في فضاء الإيمان، فنجرها بأيدينا وندب كالحشرات على أديم الأرض..
يجمعنا رمضان على مائدة القرآن، بعد أن تفرقت العشيرة والعشيرة، والقبيلة والقبيلة، والأهل والأهل، وتنتقل أعماقنا من نير إلى نير أثقل، وأمم الأرض تنظر من بعيد ضاحكة منا..
إن لحظة تلاوة تراوح بين تأثيرات الإعجاز وهدهدة الإيمان في القلوب لهي أسمى وأثمن من جيل ملأه المجد الذي يمنحه الضعيف للقوي الطامع.. في تلك اللحظة تتحرر النفس من قيود قوانين الإنسان الوضعية المتباينة، والتي تحبس الإنسان وراء جدران الإهمال وتثقله بقيود الظلم..
وعند تلاوته والخوض في عدله تتأوه النفوس على فقدان العدل،وتلك اللحظات أجلّ وأفضل من عمر يضيعه الإنسان مسروراً على مائدة الشهوات.. تلك لحظة تطهر القلب وتفعمه بالنور..!!
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا