عفقات الأنامل بإبداعات الأيادي
بقلم: حسين أحمد سليم
منذ بدء الكينونة البشريّة, عاش الإنسان على فطرته التي فطر عليها, فكان له الوقت الفسيح الممتدّ, وكان له الفراغ الممتع المؤنس, وكانت جُلّ مشاغله, الإهتمام بضمان إستمراريّة حياته, ومتابعة شؤون وشجون كيانه, تسكنه الطّمأنينة حينا, فيهدأ في سلام من رغد عيشه, وتُحرّضه دوافع العمل من أجل البقاء, فيندفع في سبيل الكفاح والجهاد والعمل, ليحمي ذاته من غوائل الأيّام, والوحوش الضّارية من حوله...
عاش الإنسان الأوّل, عند ضفاف الأنهار, وأقام عند شواطيء البحار, في أماكن متفرّقة من إمتدادات الأرض وبقاعها... وإتّخذ جذوع الأشجار وأغصانها وأوراقها مأواه الأوّل, ثمّ تحوّل إلى المغاور والكهوف, ليقي نفسه من هجمات الحيوانات والوحوش والضّواري...
شكّل الإنسان الأوّل ما شكّل من الحجارة, وفق حاجاته إليها, وصنع منها وإبتكر, ما تراءى له, يزود به عن نفسه, ثمّ راح يتفنّن في خلق وإبداع, ما أدّى لولادة الفنون البدائيّة الأولى والبسيطة, من عفقات أنامله وإبداعات أياديه...
خطوات الإنسان الأولى, بدأت مع ما نحت من حجارة, إستخدمها للدّفاع عن نفسه, وتجسّدت فيما أقامه من حوائط وجدران, وفيما نحته في الصّخور من مغاور وكهوف, ثمّ تدرّج في إستخدام المعادن التي توافرت له, فإستخدم النّ؛اس والبرونز والحديد...
عرف الإنسان الأوّل الزّراعة, فإبتكر وصنع أدواتها الأولى, وصنع الأواني الفخّاريّة التي يحتاجها, وأدخل عليها شيئا فشيئا النّقش والتّزيين... ومع إندماجه في بيئة وأحضان الطّبيعة التي عشقها وإستهواها مشهديّات وجمال, ممّا إنعكس على نتاجه وصناعته وفنّه, بأصدق معاني التّعبير, عمّا تُكنّه الطّبيعة من أسرار, وما تنطق به من معالم ومشهديات الجمال... ولقد سجّل التّاريخ للإنسان هذا فنونه الأولى البسيطة, وأرّخ لنشأتها الفطريّة...
مع مرور الزّمن, تفتّحت عيون الإنسان على جماليات الطّبيعة ومشاهدها, وتطوّر تفكير ذلك الإنسان, مواكبة لإحتياجاته في ضمان إستمراريّة عيشه وبقائه, فراح يبتدع في الصّنع ويبتكر في الخلق والتّقنيّة, ليُشبع ميوله ويُحقّق رغباته, فأعدّ نفسه الإعداد البدائي, وصقل ذهنه الصّقل الوّلي, وتزوّد من الحياة بالمعرفة شيئا فشيئا, بما أعانه على تجلّيات فنونه... وهو ما تبقّى يتماهى حتّى يومنا هذا على جدران الكهوف والمغاور من رسوم بدائيّة وصور رمزيّة, وتدلّ دلالة واضحة على دوافع ذلك الإنسان في زمانه القديم, ويدلّ أيضا على أصالة تلك الفنون التي نشأت ونمت وتطوّرت جنبا إلى جنب مع تقدّم التّاريخ البشري...
الإنسان الأوّل كان يعتزّ بما يخلعه على سلعه وأوداته وملابسه ومختلف حاجياته من زخرفة وتزيين, قاصدا بها التّذويق والتّجميل, رغم البساطة والسّذاجة... وتُعتبر تلك المظاهر, أولى الإبداعات الفنّيّة البدائيّة للإنسان, وهي لم تكن فقط للتّسلية أو اللهو, وإنّما كانت لخدمة أغراضه النّفعيّة وغيرها, سيّما السّحريّة والخرافيّة والأسطوريّة منها, كون ذلك الإنسان القديم, لم يكن ليُفرّق بين الأوهام والحقائق, ولا يفصل بين الوقائع والخيالات...
الفنون البدائيّة للإنسان القديم, إنطلقت من حالته النّفسيّة, مندفعا نحو حياة إتّسمت بداية بنوازع من الإضطّرابات, ممّا جعل الفنون الأولى للإنسان ذلك, تسير في خضمّ من التّطوّر الإضطّراري والمتسارع, بحيث كان الفنّانون القدماء, يهدفون إلى ما يقتنعون به, تحدوهم في البعد لهم, عقيدة متأصّلة تنطوي عليها نفوسهم, وتنبعث متفتّقة من أحاسيسهم ومشاعرهم... ويظهر ذلك من خلال ما تركوه لنا من أعمال وفنون, جسّدت أفكارا مختلفة ومتنوّعة, خرجت صادقة من أعماقهم, وبمحض شعورهم ووجدانهم وإحساسهم...
ومع نهايات القرن التّاسع عشر, كُتب للفنون أن تنتشر لها مذاهب ومدارس ومسارات, وتدخل كافّة أقطار العالم, ليركب صهوتها الفنّانون من كلّ حدب وصوب, ويُمارسون فنونهم, ويُصيغون لوحاتهم بكلّ جميل, ويُخرجون لنا نتاجات فنّيّة تشكيليّة, تموج وتنبض بالحياة وتشعّ بمسحات من الجمال... ولولا هذه الفنون التّشكيليّة, التي إنتشرت في كلّ مكان على سطح الأرض, وحيث يوجد الإنسان وتوجد الحضارة, لبدت الحياة مُملّة وجافّة, فالفنون التّشكيليّة هي مرآة الحضارات الصّادقة, التي تنعكس على صفحاتها المصقولة, معالم تلك الحضارات في عصورها المختلفة, بأحداثها ومظاهرها ومكوّناتها...
والفنون بشكل عامّ, وفي كلّ زمان ومكان, تقوم مقام السّجلاّت الضّخمة, والتي نُقلّب صفحاتها بين الوقت والآخر, لنقرأ التّاريخ مُجسّدا, يتماهى في صورة أو تمثال أو لوحة أو مشهديّة أو قصيدة أو نصّ أدبيّ أو قصّة أو رواية أو نشيد... ذلك أنّ الفنّان يعيش الواقع وأحداث الحياة, وهو أوّل من يتجاوب مع كلّ ما يدور حوله ويحدث أمامه أو في عصره, وهو الأولى بتجسيد ذلك بلغته الفنّيّة التّشكيليّة والأدبيّة والأدائيّة, من خلال الألوان والخطوط والأنغام والحركات والكلمات, بوسائل إعلاميّة تعبيريّة متنوّعة ومختلفة...