خلع الليل عباءته تاركاً مكانه لنهار قد يأتي أولا يأتي . فجـر جديد يطل بهمساته على حدود المدينة ، الناس يتحدثـون ، يتكلمون يـتـقولون ، يـبالغون ، لكن ما رأوا ضجة ، ما سمعوا جلجلة . تسائلوا في هسهة ميتة : متى تجيء الشمس وتنشر أشعتها على الحارة .. ؟ تضاربت الأقـوال ، الحقيقة مجهولة .. تكـلم الناس زمنـاً ، ولاكوا غرائب عجيبة بين ألسنتهم ، وسكـتـوا..
عياش ساهي الفكر .. بارد النظرات .. تـلمع عيناه بحـزن يملأ شعاب فؤاده . قبل الفجر، خرج ليـلحق صلاة الصبح ، والظلام ينفـذ إلى السماء ، يخترق السحب العليا .. على عتبة باب المسجد جلس عياش ينتظر، والكآبة تـزهر في قلبه ..
موال من القول يتدفق على لسانه ، كان يـتحدث بثـقة كبيرة إلى المصليـن : أعتقد أن من بيننا ، من أنفسنا ، من جدران مدينتنا ، خرج سماسرة يتاجرون بشوارع الوطن .. في أحزمتهم مسدسات يقصفون بها العظام .. يسيـرون ويتوقـفون ، يتأملون البنايات ، يحدقون في الشرفات .. يقرأون جدران المآذن ..
فزع الناس ، ارتابوا، راقبوا الشوارع ، أعياهم الانتظار والترقب .. يـوماً بعد يـوم .. نسي الناس أسماءهم ، خلعـوا عباءاتهم ، ظهرت ملابسهم التحـتية .. لا يـبـيـتون في بـيـوتهم ، يمشون في الشارع وألسنتهم متـدلدلة .. تحامقوا ، عزموا على الرحيل ، راحوا يبحثون عن وطن جديد ..
حمدان كان غائباً مدة من الزمن .. يقال إنه قدم من ضباب أبيض.. رجع إلى المدينة التي لامست رأسُـه أرضها ، دخلها نهاراً ، يحمل في يده اليمنى مفاتـيح كبيرة كانت للخليفة هارون الرشيد .. يـبحث عن رجل ثـقة يـسلمه التركـة التاريخية.. تاه في شارع تاريخي ،لا ضوء أمامه ، لا ضوء خلفه ..
وقت موحش يفترسه .. غيوم يتيمة تـتـزحزح من مكانها متكاسلة قد تـنبض بمطر خفيف .. الناس في فوضى كـنمل باغـته سيل جارف ليلا .. انفـتحت عيناه .. رأى كل شيء .. واطلع على كل شيء ..
في آخر الشارع ، مخـبزة كــُـتب عليها اسم غريب .. بلغة غريبة ، غيـر لغة أهل البلد .. الناس يتجمعون ، يتفرقون ، يتشابكون ، يتخاطفـون على خـبـز أبيض كدجاج يتصارع على النخالة في صحـن كبيـر.. بأم عينيه رآهم يـبـيعـون إيمانهم بسهولة ، يشتـرون بثمنه رغيفـاً وتبغـاً .. أطفال يشنقـون جوعهم في قمامات ملفوفة بأعلام غريـبة.. امتـلأ دماغه حزنـاً ، تشنجت أوصاله ، كاد جسمه أن يخرج من ملابسه ، غمغـم وقال :
ـــ هذا زمان الخطإ التاريخي ، إن أجمل الأيام ما كنا .. ما كـتبنـا ، ما قرأنا ، ما غنينا ، ما رأينـا .. وما عشنـا ..؟
حمدان يتأمل المباني والشوارع ، كل شيء تغيـر في زمن قصيـر، نشر التـتــاـر الجدد خـرابهم الأسود في البلاد دون حق ..؟ الناس يجـرون ، يركضون ، يـتعـثرون، ينهضون ، يتوقـفون ، يشاهدون وألسنتهم خارجة من أفواههم .. ؟ يحملون في أيديهم أكفا نهم البـيضاء ، وأفواههم تحولت إلى مقابــر كبيرة للآهات والزفرات ، كان لهم نهار منذ أيـام .. بالأمس كان لهم تاريخ .؟ الآن .. من هم ..؟ لا يعرفون ..؟
الناس يرقبون الموت في توجس ، عيونهم تـقرأ أحزمة الرصاص النحاسية ، قد تخرج تباعاً عند كل خشخشة ، لا تخطئ أي حشرة طائرة ولا زاحفة .. أصبحوا بدون اسم ، بدون هوية، يمضون مع الزمن بأرخص الأثمان ، لا دية لهم ،لا أحد يطلب أثــرهم ..
أطلق حمدان صيحة في وجه اللانهائي ، واللحظة تشنق معاني الكلمات على لسانه .. ياقـوم : من ذهب إلى أبد لا يوقظه حي .. لا أمل في الحياة .. موت أحمر يجتاح البلاد .. يشنق الأرواح بدون شفقة .. لا وطن لكم منذ اليـوم .. وطن الخوف المرعـب يطل بعنقه عليكم ..
عجوز متأخـر عن الجماعة يترنح بثـقـل هموم جـارحة .. يتعـثـر الهواء في صدره ويكـبو ، ينساب صوته بـيـن فجوات الأزقة ، تخرج الشكوى من فمه كنصل يشق فؤاده . اقترب حمدان من العجوز ورنيـن المفاتـيح يكسر خطية الزمان .. العجوز يهمس في أذن حمدان :
الجار يخبئ الخبز على جاره .. نفد رغيف البلد ، وقل زيت الزيتون ، لا ندري أين تسرب الزيت الأسود .. لم نعد نلبس الملابس الفضفاضة ، التتار يرقص فوق ظهور البشر .. أيـن كنت يا هذا..؟ لقد جئت متأخراً.. همّ حمدان أن يسلمه مفاتيح المدينة ، عدل عن فكرته . اشتـد به الغـضب ، مضغ حزنه في قـلبه..
على جدار مسجد تاريخي ، وجد حمدان ملصقاً مكـتوباً بخط عربي .. بجسم عربي .. استـوى في وقفته ، يقرأ : الصلاة تـقام بجانب البندقـية .. تـقام بجانب الأحمق والمعـتوه .. لم يعـد ثمـر يـوزع في أبواب المساجـــد .. اختـفت أبـــــواق المآذن .. حلت محلها كامـيـرات متطورة ، تـقرأ الكلام من تحت شفاه الناس ، تغربل الأفكار من تحت السقوف .. في كل يوم ، تـقام محاكم سريعة .. بدون حياء تـفصل الرؤوس عن أجسامها فجـراً..؟
من يدري قد تـنتـفض ذاكرة العرب الجديدة ، تصح الأجسام و تـشفى العـقول ، وتصبح الأحزان طيـوراً مهاجرة ، ويسقط جلباب التاريخ الأسود ..؟ فلا تاج لوطن بدون شعبه ؟
أسرع حمدان وأسرع في خطاه قبل أن يـرفع العدو من سقف الحصار، وفي فمه حكاية أحزان ، ومع ذلك حاول أن يخطف البسمة من اللحظة ..
وزع المفاتــيح في كل حي ، في كل درب ، في كل شارع .. في كل مدن الوطن ، في الجبال والسهول .. اتكأ الناس على حناجرهم ، صرخوا ، صاحوا ، قاتلوا الظلام ، ناموا على الأرصفة .. توسدوا عـتبات المنازل ..
أيام مرت ، بدأت كل المدن تغير أثوابها الداخلية ، تنشر أغطيتها على السطوح ، عيون دامعة تراسل السماء ، تتطلع إلى شمس جديدة .. حملت الشوارع قبلات دامية تركت جروحاً عميقة في الصدور ، كلما استقوى الصيد الرديء في كل مكان كلما كانت الخلائق البشرية تستنشق نسمات الحرية بأيديهم .. فاستعصى على الظلام اعتقالهم ..
مرت شهور ،عادوا يرتبون مطالبهم ، يفحصون وثائقهم ، بدا لهم أن لا تغيير في الأفق القريب ، تراشقوا بالكلمات ، تبادلوا التهم ، ضاعت الحقيقة بينهم ، تفرقوا شيعاً ، فسقط الكل في حرب عبثية ..