أكرمنى الله بأنى عشت فى مدن الفقر سنوات عديدة, ثم أكرمنى مرة" ثانية وانتقلت لطبقة ساكنى المبانى العالية !! , ورغم أن رغد العيش وطعم الغنى له مذاق خاص, ورغم أن العيش فى ظل وجود أنترية وجهاز تكييف نعمة كبيرة!!, إلا أنى أشهد بأن أحلى ذكرياتى
الأنسانية كانت فى مدن الفقر, حتى أنى من حين إلى أخر أشعر بالحنين لزيارة مدينتى القديمة, مرة" لكى أؤدب الطفل المغرور فى داخلى!!, ومرة" ربما أجد صفحات من كتاب عمرى نسيتها تحت حطام مدينتى القديمة.
مدينة الفقر ليس لها بوابات أو أسوار عالية, مفتوحة على الأفق, زوارها كثيرين, فى كل يوم ينضم الألاف إليها, لا تحتاج إلى تأشيرة ولا جواز سفر, وكثيرا" مايزورها أصحاب المعالى وأصحاب الياقات البيضاء, يتجولوا فيها كأنهم فى سفارى كينيا!!, كم يعجبهم مشاهدة حديقة الأنسان!!.
ثقافة الفقراء ورومانسيتهم عجيبة, خليط من الماء والملح, الدموع وقليل من الإبتسامات الضاحكة القلقة ,الخجولة يعقبها الجملة الشهيرة ( اللهم إجعله خييير) !!, وكأن لابد بعد الفرح من حزن, ولازلت أذكر الكثير من المشاعر الرومانسية التى عشتها بنفسى كبطل, وبعضها شاركت فيه كضيف شرف فى خلفية القصة!!.
اليوم فرح سناء بنت الأسطى رجب النجار, زغاريد محشرجة أرهقها الجوع , تتسل الى الشوارع الضيقة القريبة, عم رجب واقف أمام بيته الصغير وإلى جواره صندوقين من المياه الغازية, يقف والسعادة غيرت ملامح وجهه
الشاحب فى فخر يوزع الزجاجات على الأحباء والجيران الأقرب إليه!!, أم سناء يلتف حولها النسوة فى حوش البيت والأغنية تهز البيت المتهالك( أهوه جالك أهوووووه, ريح بالك أهووووووووه)!!,, وسناء تتمايل فى نشوة وسط
صديقاتها على إيقاع الأغنية, كم هى سعيدة فعلا" لأنه جاءها أهووووه, وربما يريح بالها فعلا", فأقل مكسب ستحصل عليه على الأقل أنها ضمنت أن تحتل نصف سرير للنوم بعدما كان نصيبها الربع أو الثلث على أقصى تقدير!!.
فى الشارع الخلفى, صرخات ونحيب وتأوهات, فقد مات عم عربى الحداد, وعم عربى كان دفتر أحوال الشارع, يعلم كل شاردة وواردة وأصل وفصل كل السكان القدامى والجدد, أم مصطفى زوجة عم عربى, أكتست بالسواد من
رأسها حتى قدميها, تبكى وتنتحب وتصرخ غير مصدقة نفسها( ياسبعىىىىىىىىىى, يا جملللللللى), وفعلا" كان عم عربى رجل (سبعى) لأنه كان يكدح ليل نهار , سبع أيام فى الأسبوع لكى يوفر لأهله قوت يومهم, وكان فعلا" (جمل) لأنه صبر و تحمل من أم مصطفى ما لا يتحمله الجمل فى صحارى النيجر القاحلة!!.
فى أخر الشارع وقفت تهانى مع يسرى صاحب مقلة اللب, أكثر من ربع ساعة واقفة أمام المقلة تحكى وتبتسم مع يسرى, وحجتها جاهزة أنها تشترى فول سودانى لأخيها الكبير!, عيونها فيها شوق وجوع, وأصابعها تناول يسرى
ثمن الفول وهو يطيل مسك يدها بحجة انه لايريد أخذ مال منها, خلف يسرى تنبعث نغمات من كاسيت أهلكته الأيام , صوت إيهاب توفيق ( الله يعوض علينا....باللى يفرح عنينا), وفجأه تنتفض تهانى وتتلعثم, فتسحب أصابعها الملتهبة من يد يسرى, فقد لمحت من بعيد أخيها الذى جاء يبحث لماذا تأخر الفول السودانى؟!!!.
ذكريات كثيرة تعبث فى قلبى ويكاد صوتها يمزق أذنى حتى هذه اللحظة