فَرْحَةٌ
كَانَتْ بَعَضُ صُوَرٍ تَنَاقَلَها النَّاسُ عَلَى مَوَاقِعِ التَّواصُلِ الاجتِمَاعِيّ لاحتِفَالاتِ أَهلِ غَزَّةَ بِانتِصَارِهِم العَظِيم، وَاستَوقَفَتْنِي صُورَةٌ لِمُجَاهِدٍ يَجلِسُ بِجَانِبِ جِدارٍ تَهَدَّمَ بَعضُهُ فِي قَصفٍ أَودَى بِأَهلِهِ، فَخَنَقَتْنِي العَبرَةُ وَانسَدَلَت سِتارَةٌ قَاتِمَةٌ عَلى مَشاعِرِي وَقُلتُ:
مَا كَانَ فِي سَفَرٍ
وَلَا طَلَبَ العُلا فِي غَيْرِ غَزَّةَ
لَمْ يُشِحْ يَومًا عَنِ الوَجَعِ المُقِيمِ بِدَارِهِ
مَا هَابَ مَوتًا
يَوْمَ جَاءَ المَوْتُ مَحْمُولًا عَلَى طَيْرٍ تَجُوبُ -عَلَى المَدَى-
أَقْصَى حُدُودِ دِيَارِهِ
لَكِنَّ جَزْرَ الصَّبْرِ -رَغْمَ القَهْرِ
حِينَ اسْتَفْحَلَ الأَرْذَالُ- أَعْلَى مَوْجَ مَدٍّ مُسْتَبِدٍّ
فِيهِ بِاسْمِ اللهِ حَشْدٌ رَدَّ حِقْدًا
وَانْبَرَى لِلْمَوْتِ يَسْعَى مُسْتَرِدًّا
مَا أَضَاعَ الأَهْلُ فِي زَمَنِ الخُنُوعِ
بِسَحِّ أَنْهَارِ الدُّمُوعِ
وَمَا انْطَوَى تَحْتَ اللِّوَى بِيَمِينِهِمْ مِمَا أَتَى بِيَسَارِهِ
وَمَضَى بِوَعْدِ الصَّدِّ يُعْلِنُهَا بِغَضْبَةِ ثَائِرٍ
وَلَجَ الدُّجَى
أَنَّ الظَّلُومَ مَنِ ابْتَدَا
وَعَدَا عَلَى حَدِّ العِدَى
وَلَهُمْ بِقَبْضَتِهِ انْتِقَامٌ عَرْبَدَا
رَعْدٌ بِسَطْوَةِ ثَارِهِ
وَأَتَى غِمارَ المَوْتِ يُحْيي بِالعَزِيمَةِ عِزَّةً
كَانَتْ بِأَمْرِ اللهِ شِيمَتَهُ
وَيَقْتَحِمُ الرَّدَى
وَيُزِيحُ عَنْ وَجْهِ السَّمَاءِ غَمَامَةَ الحُزْنِ المُكَدِّرِ عَيْشَهُ
وَيُعِيدُ شَمْسَ نَهَارِهِ
يَا شِيمَةً خَطَّتْ عَلَى سِفْرِ الإِبَاءِ سُطُورَ مَجْدٍ
لَمْ يُخَلِّ القَهْرَ يَمْحُوهَا بِقَسْوَةِ جَارِهِ
أَأَخٌ هُوَ الجَارُ المَقِيمُ هُنَاكَ حَيْثُ حُدُودُهُ مَغْلُولَةٌ
وَالجُوعُ يَقْضِمُ ظَهْرَهُ
وَالرِّيحُ تَذْرُو مَا يَلُوذُ بِهِ وَتَهْتِكُ سَتْرَهُ
وَاللَّيْلُ يُمْطِرُهُ بِفسْفُورٍ يُضِيءُ سَمَاءَهُ
وَالبَحْرُ يَقْذِفُهُ بِوَابِلِ نَارِهِ!
لَمْ يَشْرَبِ اليَأْسَ انْتِظَارًا بَيْنَمَا ...
شَرِبَ الَّذِينَ تَمَرَّغُوا بِالذُّلِّ كَأْسَ النَّصْرِ خَمْرًا عُتِّقَتْ بِحِصَارِهِ
وَصَحَوْا عَلَى ذُلٍّ تَرَبَّعَ فَوْقَهُمْ
لَمْ يُثْنِهِمْ عَنْ ذُلِّهِمْ بِوَقَارِهِ
أَأَخٌ وَيُمْعِنُ فِي الأَذَى
وَبِعُذْرِ ذِلَّتِهِ اغْتَذَى؟!
تَعْسًا لِمَنْ مِنْ غَدْرِهِ اليَوْمَ الرَّجِيمُ تَعَوَّذَا!
وَمُكَلَّلًا بِالنَّصْرِ عَادَ الصَّقْرُ لا يَدْرِي بِمَا حَكَمَ الإِلهْ
مُسْتَعْلِيًا يَحْكِي لِطُوبِ الأَرْضِ مَا صَنَعَتْ يَدَاهْ
وِحِجَارَةُ الدَّرْبِ الّذِي يَمْشِي عَلَيْهِ
تَصَارَعَتْ لِتَنَامَ تِحْتَ حِذَائِهِ
وَتَمَسَّ ذَيْلَ إِزَارِهِ
كُلٌّ تَتُوقُ لِأًنْ تَكُونَ لِطَرْفَةٍ مَرْمَى خُطَاهْ
وَمَعَالِمُ الطُرُقِ الأَبِيَّةِ تَحْتَوِيهِ
تَذُوبُ فِيهِ
تَوَدُّ لَوْ تَدْعُوهُ كَي يَبْقَى بِسَاحَاتِ احْتِفَالٍ مَدَّهَا بِدَمِ الحَيَاةْ
فِإذَا الّذِينَ اشْتَاقَهُمْ صَرْعَى
وَعَيْنُ الشَّمْسِ تَبْكِي
وَالمَنُونُ أَتَتْ عَلَى مَنْ فَاتَهُمْ فِي دَارِهِ
كَيْفَ السَّبِيلُ لِفَرْحَةٍ وَسَلاسِلُ الأَحْزْانِ طَوَّقَتِ الأَبِيَّ
وَعَلَّقْتْ بِالفَقْدِ نَشْوَةَ الانْتِصَارِ
وَخَلَّفَتْهُ مُصّفَّدًا بِحَنِينِهِ لِلرَّاحِلِينَ وَلائِذًا بِجِدَارِهِ
وَنَعِيشُ فَرْحَتَنَا بِمَا حُزْنَا ثِمَارَ خَيَارِهِ