وقفت إلى قبر أبيها لأول مرة ، بعد تسع سنين من تاريخ وفاته. أخذتها الرهبة وأذهلها الموقف فانعقد لسانها. تسمرت في مكانها صامتة لا تدري ما تقول. تتلمس القبر فتستشعر طراوة يد أبيها وهي تقبلها قبل أن تسافر.. تغالب دموعها كما فعلت في ذاك اليوم. ظنت أنها عندما تلامس يديه سيشعر هو بحرقة قلبها عليه، ولكنه كان قد دخل في سباته العميق.
تنظر إلى القبر عل نظرتها تنفذ إلى عيون أبيها..يبادلها هو قبل أن يدخل في غيبوبته بنظرة تائهة حائرة متسائلة: " من أنتِ ؟" فتقول :" أنا سارة ..سارة ابنتك .. أنا سارة يا بابا " وترد عيناه التائهتان الحائرتان " لا.. لست سارة " ووتتساءل هي: " تُرى يا أبى أتنكرني من شدة شفافيتك؟ أم أن الألزهايمر هو الذي محاني من ذاكرتك؟ نعم يا أبي أنا لست سارة التي تعرفها! "
و في الطريق إلى المطار ، لم يستطع النقاب أن يخفي حالها، فها هو تتساقط من طرفه قطراتُ دموعها الساخنة على يد زوجها الممسكةِ بيدها طول الطريق.
ليلةً واحدة باتتها في غربتها بصحبة أبيها وهي تلقنه الشهادة في منامها .. " قل أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" فيرد أبوها " أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً نبيُ الله " .. وحينما أدركها الصباح أدركت أن أباها ميتٌ في هذا اليوم فهي لم تكف في منامها عن ترديد قول الإمام علي " لا دار للمرء بعد الموت يسكنها .. إلا التي كان قبل الموت يبنيها " .. صمت أختها على الهاتف يثير ظنونها و استرجاع أمها يجعل الظن يقيناً. لم تبك.. لم تصرخ.. لم تنطق.. تماماً كما هو حالها الآن أمام القبر.
مرت بضع دقائق وهي واقفة، عاجزة عن أن تقول أيَ شيء ، وبضع دقائق أخري، يعقدُ لسانَها الخوف والرهبة. لم تعتد هي أن تتحدث أمام أبيها.. ولا تذكر أنه قد جمعهما أي حوارٍ طويل. كانت تهابه وتستحي منه مذ كانت طفلة وحتى آخر لقاءٍ بينهما. قضت سنين طفولتها لا تراه إلا ضيفاً حبيباً في نهاية كل أسبوع ، حيث كان مغترباً للعمل في إحدى محافظات الصعيد.. تذكرُ حقيبةَ سفره السوداء التي كانت تسارع هي وأخويها إلى فتحها واستخراج ما بها من الهدايا والفاكهة من بين ملابسه وكتبه الدراسية التي كان يعكف عليها عند فراغه من عمله، ليحصل على شهادةٍ جامعية تحسن أوضاعه، وتخلصه من تلك الوظيفة القاصية.
تذكرُ يوم أن نجح أبوها وحصل على بكالوريوس التجارة ، وتبتسم :" ما زلت أعشق شراب الورد مذ شربته في ذاك اليوم وما زال لونه المفضل عندي من بين كل الألوان! " لا غربهَ بعد اليوم.. ها هو أبوها يبيت معهم سبع ليالٍ في الأسبوع.. نعم فقد كانت وظيفته الجديدة تشغل النهار كله ،حيث كان يعمل لفترتين ليكفيَ أبناءه وأبناءَ أخيه.
فقط في يوم الجمعة كانت ترى عيون أبيها العسلية في ضوء النهار.. ويكدر صفو هذا اليوم خناقات أبيها مع إخوتها الذين لا يملون اللعب خارج البيت مع أصدقائهم، ولا يلتفتون إلى دراستهم ، ولا يسمعون الكلام.. وحدها هي حبيبةُ أبيها لا تعرف اللعب، وليس لديها أصدقاء ، منكبةٌ على دراستها، تطيعه ولا تثني له كلمة. ظلت الإبنة الوحيدة المدللة بين ثلاثة صبية مشاكسين حتي وُلدت أختُها وكانت حينئذٍ إبنة الأحد عشر ربيعاً.. كان الأب سعيداً جداً بابنته الثانية .. يتغزل في جمالها والرزق الواسع الذي أتى معها .. لم تعتد هي أن تسمع من أبيها كلماتِ الغزل من هذا النوع.. لم يقل لها يوماً أنها جميلة ! بل إنه كان يداعبها دائماً بالسخرية من شكل أنفها قائلاً إنه يشبه أنف أنديرا غاندي .. هي لا تعرف وقتئذٍ من هي غاندي هذه ولكنها تستشف أنها شخصية عظيمة عندما يقول لها " ليتك تكوني مثلها. "
ما زالت واقفةً أمام القبر .. صامتةً صمت من في القبور .. تنعم مثل الصالحين منهم بالذكريات الجميلة مع أبيها .. وتشقى شقاء الخاسرين منهم كلما أفاقت وتذكرت سبب وجودها في هذا المكان .
........
يتبع الجزء الثاني .