هذا ملخص لرسالة ماجستير للدكتور يوسف الأحمد بعنوان "الوثنية الحديثة وموقف الإسلام منها" .أحببت نقلها هنا لما تحويه من نقاط هامة و تصحيح لمفاهيم مغلوطة عن "الوثن"
جاءت رسالة الأنبياء عليهم صلوات الله أجمعين وسلامه لتدعو الناس إلى عبادة الله وحده تحقيقا للأمر الإلهي الكريم في كتابه " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " , فعبادة الله سبحانه هي المراد من إيجاد الخلق أجمعين بإنسهم وجنهم فقال سبحانه " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " .
وإفراد الله سبحانه وحده بالعبادة تعني الكفر بما عداه من المعبودات الوثنية , فكل معبود من دون الله وثن يجب على المسلم الكفر به , وجاء ذلك على لسان كل الأنبياء في توضيح لا يشوبه لبس في كلمات الأنبياء لأقوامهم , فمنهم يوسف عليه السلام الذي قال " مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " .
وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حتى من قبل ان يخلقهم سبحانه وأخذ عليهم العهد بذاك فقال عز وجل " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ " .
ولم تزل الوثنية ضاربة أطنابها في جوانب البشرية منذ قديم الزمن , ولم تختف من البشرية بل لازالت تتشكل وتتلون في أشكال وألوان عدة حتى وصلت لعصرنا الحديث الذي تجسدت فيه وثنية حديثة شكلا قديمة مضمونا .
فبعد مقدمة ضرورية وهامة حول مفهوم الوثن والصنم وحول مفهوم العبادة وإخلاصها لله وأنواع التوحيد مضى الباب الأول من الرسالة وهو جزء ضروري كتقدمة للموضوع , وجاء الباب الثاني مكملا للأول متحدثا عن الوثنية القديمة بمعناها المألوف وصورها المعروفة وأسباب انحراف البشرية لها – فالتوحيد هو اصل البشرية وليس العكس – ثم انتقل إلى وصول الوثنية إلى جزيرة العرب عن طريق ذلك الدعي المسمى بعمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من بدل دين إبراهيم وادخل الأصنام في جزيرة العرب والذي حرف العبادة فجعلها للأشخاص وللأوثان والنجوم والكواكب والحيوان والنار وغيرها .
وارتكزت داخل العرب تلك الوثنية لفترة من الزمن حتى قال أبو رجاء العطاردي – رضي الله عنه – عن الفترة التي قضاها في جاهليته كما رواه البخاري في صحيحه " " كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ .."(1)
وفي بداية الباب الثالث بدأ الباحث في صلب بحثه وهو حديثه عن الوثنية بشكلها الحديث ملمحا لملمح مهم وهو أن البشرية انتقلت في شركها بالله من عبادة المحسوسات لعبادة الأفكار , فاخترعت لها أفكارا جديدة وقدستها لدرجة العبادة فلا تأتمر إلا بأمرها ولا تنتهي إلا بنهيها وليس لها مرجع سواها وأضحت تلك الأفكار هي الغاية التي يقصرون حياتهم لنصرتها وللدفاع عنها وترويجها والدعوة إليها وابتعدوا تماما عن المنهج الإلهي , وإذا تعارض المنهج الإلهي مع ما يقولون به تبعا لتلك الأوثان التي آمنوا بها لرجحوا ما يؤمنون به ونحوا منهج الله وشريعته جانبا , ورغم ذلك يلبسون على الناس بقولهم بأنهم مسلمون ويؤدي بعضهم الشعائر الإسلامية حتى لا يظن أحد أن هذه الأفكار تتعارض تماما مع الفكرة الإسلامية .
ومن هذه الأفكار التي راجت عن الكثيرين ورفعوها لمصاف الأوثان التي لا يسمحون لأحد بالمساس بها فكرة الديمقراطية , العلمانية , الشيوعية , العقلانية , القومية أو الوطنية , فكرة الرأي العام وغيرها من الأفكار .
ومن خلال بحثه يصل الكاتب لحقيقة وهي ان كل تلك الأفكار صدرت من جهة جغرافية واحدة وهي قارة أوروبا وفي حقبة تاريخية قريبة وهي فترة العصور الوسطى حيث بلغ الطغيان بالكنيسة فضيقت على الناس معايشهم وحاربت العلم وقتلت العلماء وروجت للجهل والخرافة , فكانت ثورة الناس عليها بالتطرف المضاد وهو ظهور كل تلك الأفكار السابقة , فلا دخل لكل هذا بالعالم الإسلامي ابتداء ولكنهم نقلوه للعالم الإسلامي رغبة في تدمير الكرة الإسلامية باعتبارها المقاوم الأول وربما الوحيد الذي يستطيع ان يقف أمام كل تلك الأفكار بالمرصاد .
وثمة ملمح آخر يلفت إليه الباحث النظر وهو ان لليهود في كل تلك الأفكار يد فتارة يصنعونها بأفراد منهم وتارة يروجون لها ويتبنونها بآلتهم الإعلامية ليحاربوا بها الأديان تحقيقا وتصديقا لقول الله سبحانه " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
وقد انتقلت عدوى تلك الوثنيات لحياة المسلمين بل كانت هناك مظاهر مصاحبة مثل اختلاط بعض مفاهيم العقيدة عند المسلمين وخاصة سوء فهم عقيدة القدر وأيضا خلل في مفاهيم العبادة وقصره على العبادات الظاهرة في الأركان الخمسة للإسلام فقط والادعاء بان شريعة الله غير صالحة لهذا العصر وغيره ذلك من الأفكار الباطلة .
ولقد ظهر تأثر المسلمين بهذه الأفكار في عدة مجالات ومظاهر مثل تحكيم شرائع غير شريعة الله سبحانه مع إضفاء بعض الصبغات الوطنية على القوانين الجاهلية لتمريرها وتجميلها وتبني الدعوة إلى تحديد النسل وموالاة دول الكفر والكافرين تحت عدة دعاوى باطلة والدعوة للسفور وللاختلاط في المدارس والجامعات والمحافل .
ثم اختتم الباحث بحثه بمحاولة اقتراح بعض وسائل لمقاومة تلك الأفكار ومحاولة علاج المجتمع المسلم مما أصيب فيه , وهو لاشك أمر جلل يجب ان يضطلع به علماء الأمة كلهم ويجب ان يوجهوا إليه سهامهم وجهودهم حتى لو لم يتحقق منه شيئ خلال حياتهم فما أصاب الأمة على مدى أكثر من قرنين من الزمان من العمل المتواصل المنظم للهدم يحتاج في البناء لوقت ربما أطول من زمن الهدم ولكن الأهم أن يتبنى العلماء هذا المنهج ولا يهتموا بطول الزمان أو قلة النتائج .
فكان من مقترحاته التي اتسمت بكونها خطوطا عريضة للعمل الإسلامي والتي تحتاج بالضرورة لتفصيل أكثر لتحديد المقترحات لتكون أكثر فعالية وتأثيرا :
- العمل على إظهار حقائق الإسلام ومفاهيمه التي اختلطت على الناس
- الاهتمام بالفرد والأسرة والمجتمع لتوجيههم توجيها إسلاميا عن طريق الدعوة إلى الله
- إصلاح مناهج التعليم وتوجيهها وجه إسلامية
- المسارعة باستغلال أوضاع العالم بالدعوة لعقيدة التوحيد ومحاربة الوثنية
- إصلاح وسائل الإعلام التي تفسد كثيرا من حياة المسلمين
ثم ذكر الباحث بعض النتائج التي خرج بها من هذه الدراسة وهي:
1- " أن الوثنية ليست مجرد إقامة الأوثان وعبادتها مع الله تعالى أو من دونه كما يفهمها البعض وكما يحلو للبعض الآخر أن يحصرها في ذلك ، وإنما الوثنية هي العبودية لغير الله سواء في العقائد أم في الشعائر أم في الشرائع والأحكام ، وما إقامة الأوثان والأصنام وعباداتها إلا مظهر من مظاهر الوثنية التقليدية، وهذا ما ينبغى أن نفهم على ضوئه الوثنية، فإذا تحققت العبودية الكاملة لله تعالى في كل شئ فقد انتفت الوثنية وتحقق الإسلام، وإلا فالوثنية هي الدين المتبع والبضاعة الرائجة وإن لم يكن هناك أصنام وأوثان محسوسة.
2- أن الإنسان عابد بطبعه وفطرته التي فطره الله عليها، والعبادة حاجة من حاجات النفس الأصيلة، لا يمكن أن تستغني عنها، والإنسان إذا لم يعبد الإله المستحق للعبادة فإنه لا محالة واقع في العبودية لما سواه من المعبودات الباطلة، لأنه كما يحتاج إلى الغذاء والشراب لحاجة الجسم المادي فهو بحاجة إلى العبادة غذاء للروح.
3- أن هناك محاولات دائمة تقوم بها فئة من الطواغيت لصرف الناس عن العبودية لله وتوجههم إلى عبادة ما سواه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى ، سواء في الماضي البعيد أم في الحاضر القريب.
4- أن الإنسان الذي يصرف عن العبودية لله بالصوارف الإرهابية والقوى الجهارة الطاغية، لا تموت حساسة العبادة في نفسه، وإذا لاحت له فرصة الخلاص من القيود والتعبير عن حاجته للتعبد لخالقه فإنه سرعان ما يعود للأصل ويلبى نداء الفطرة الكامن في أعماقه، وأمثله ذلك في النظام الشيوعي الملحد كثيرة جدا , وأما في الأنظمة الوثنية الحرة كالديمقراطية والعلمانية ، فإن الإنسان يعيش حياة القلق والاضطراب والفراغ الروحي ، لم تسد جوعته الشهوات المادية المختلفة ولا يزال يشعر بحاجته إلى شيئ يفتقده، وكثيرهم الذين آبوا لرشدهم واستجابوا لضغط الفطرة فأقبلوا على الله وتحرروا من العبودية لغيره ".
5- وأن الإنسان الذي يعبد غير الله تجده في اضطراب وتردد وعدم استقرار على معبود ما، فكلما سنحت الفرصة تخلص من معبوده وتحول عنه إلى غيره تبعا للهوى والشهوة والمصلحة وغيرها من المور ، وهذه ملاحظة وجدتها بين المستعبدين في الماضي والحاضر .
6- وأن العبادة- كما هي في دين الله – شاملة لجميع وجوه النشاط الإنساني غير محصورة في وجه دون وجه، ولكنها تقلصت في مفهوم الناس اليوم- حتى في العالم الإسلامي – وصارت مجرد شعائر وطقوس دينية تقليدية تؤدى بطريقة آلية لا أثر لها في الفرد والمجتمع , بينما أخرجت باقي شؤون الحياة من دائرة الدين والعبودية لله ووجهت وجهة وثنية خالصة بعيدة عن دين الله ، بل ومعادية له في بعض الأحيان.
لتحميل الرسالة http://www.taseel.com/UploadedData/u...file/34567.pdf
نقلا عن موقع مركز تأصيل للدراسات والبحوث