المرأة الفلسطينيّة في أغنية العرس الشّعبيّة، بين التّمرّد والعبوديّة
مدخل
لقد اخترت الأغنية الشّعبيّة النّسائيّة موضوعًا للدراسة؛ لأنّها تنبض بخلجات نفس المرأة، من مآسٍ ومسرّات... تلك المرأة التي عبّرت عن خلجات نفسها بأروع صورة تجسدت وتخلدت بدورانها على ألسن نساء كثيرات في مناسبات عدّة، ولسنين طويلة، كاحتفالات الزّواج وغيرها ...
نبعت الأغنية الشّعبيّة من "اللاوعي" النّسائي الذي اختزن طويلا حتّى أدركه "الوعي" وطرحه اللسان لتتقاذفه معظم الألسن النّسائيّة، وليعطينا صورة عن حياة المرأة التي حرص الرّجل على بقائها مطوية في درج حياته مدّة طويلة، ينبشها ويعيد طيّها متى شاء.
اختارت المرأة الكلمة لتعلن عن وجودها، ولتظهر حياتها وحياة الرّجل أيضا، فعكست أغنيتها واقعا إجتماعيا، يستطيع من خلالها أيّ "إنتروبولوج" أو أيّ إنسان آخر أن يدرك من خلال تلك الأغنية الأنماط الحياتيّة السّائدة : إجتماعيّة وزراعيّة وخاصّة وحتّى التّغلغل إلى أعماق النّفس وإدراك كنهها .
فأغنية العرس الشّعبي بجميع مراحله تعكس لنا العادات المتعلّقة بطريقة الزّواج، منذ لحظة إرسال "الجاهة" لطلب يد العروس إلى لحظة دخولها بيت العريس، وحتّى ما بعد ولادة الاطفال .
تبين لنا الأغنية أيضا ماهيّة المجتمع، ذلك المجتمع الزّراعي الذي كان يؤجّل أفراحه لموسم الصيف، فترة الإنتاج الزّراعي، حيث يتوفّر المال اللازم.
حتّى المزروعات استوحت منها المرأة صوراً لتعرضها في أغنيتها، فكان مضمون الأغنية غير بعيد عن عملها وعن متناول يدها. وكانت وليدة البيئة حيث ولدت من أشجار السّرّيس والزّيتون والعنب والقمح وغيره ... وروتها نفسيّة المرأة، فنمَت وظلت شاهدًا على كلّ هذا. ووصفت المرأة البيت الذي تسكن فيه وما يحويه، والأدوات التي استعملتها منذ سكنت في "العَقد" و"البيت" وفي "الدّار" التي بنيت حديثا، أي أنّ الأغنية كانت شاهدًا على التّطور المعماري ،والتّطور الحياتي العام 1.
____________________________________
1:التطور المعماري ظهر في العديد من الاغنيات
للعقد:
مين جاب جملنا من قفا لعقود جابو "فلان" بالسيف والباروده
للبيت :
من بين لبيوت "فلان" مرق خيال من بين لبيوت
والسرج يا قوت والمرشحه فضّه والسرج يا قوت
للدار الحديثه :
لمين هالدار اللي بابها لوز اخضر هاي "لفلان" والعروس تتمختر .
مثال وسائل المواصلات في مراسم طلعة العروس كانت في البداية على الجمل او الحصان .
باري هودجها يا اخوها واصحى العروس تميل
والله لباري هودجها ما دام عمري طويل ( الجمل)
جبنا الفرس يا مدلـله من يمّك
قومي اركبي وحياة ابوك وعمك (الحصان)
شدّ لها يا ابوها عَ التكسي
وان طلبت مصاري بالخمسه ( السيارة)
هذا يثبت أنّ الأغنية هي وليدة البيئة، والتي عبّرت بإحساس مرهف عن كل ما خطر ببال الإنسان وخاصّة المرأة . لذا، فأغنية المرأة هي ذخر حضاري لحياة مجتمع هددته مخاطر كثيرة وأهمّها ضياع الهويّة . فلم تنس المرأة الحياة النّضالية وما واجهته البلاد من طمع وجشع الشعوب بأرضها، فدوّنت ذلك واعتزّت به .
إنّ تداول الأغنية شفويًّا لم يحفظ الكلمة واللّغة فقط، بل حفظ حياة بأكملها – هي من صنع المرأة – تلك المرأة التي عملت في الحقل والبيت، وحافظت على استمراريّة النّوع البشريّ، وخلّدت الرّجل أيضاً . وكانت أفضل مؤرّخ، وبشعور صادق دون إضافات أو تزييف .
لقد لاحظت أثناء جمعي للأغاني اهتمام المرأة بحفظ وتدوين كلمتها التي تعتزّ بها، مع أنّ حياتها قد تغيّرت، وما تغنّت به قد أصبح في عداد الماضي والتّراث .
وكانت نشوة الفرح تغمرهن وأحيانا الآهات والتأوّهات، على ما آلت اليه المرأة من ابتعاد عن قيم كثيرة اعتزّت بها سابقًا .
إلى تلك النّساء التي جبلت لبنة بيتها بعرقها ودموعها لتنشئ أساسًا متينًا وشاهدًا عتيدًا على هويّة شعب عصفت به عواصف كثيرة، وتعرّض لمحاولات هدفت طمس هويته وتراثه، إليهن أرفع تحيّاتي وإجلالي وتقديري على ما قدمن لي من مساعدة، وتزويدي بأغانٍ ونصوص كثيرة اعتززن بها كثيرا .