فلسفة الوهم / 2
الوهمُ في واقع الحال هو أن تظنُّ نفسك عارفًا بتفاصيل لا يعرفها الآخرون ، فلو قلتُ لك الآن هل تعرف القمر ؟ ستقول لي على الفور : نعم اعرفه !!
وهنا : لو اكتشفت أن جوابك اوقعك في الخداع الحسِّيُّ فأنت ترى القمر والإنسان قبل ألف عام رأى القمر وبعد ألف عام سيأتي من يراه ، والفارق شاسع بين الرؤى الثلاث ، فقبل ألف عام لم يصدق أي إنسان إمكانية أن يطأ الإنسان برجليه هذا القمر !!
كلُّ ما هو غير مطابق للواقع لا نسميه وهمًا بل يفترض أن نسميه : إما ( خطأً ) أو ( خطيئة ) والفرق كبير بينهما فالخطأ هو نقيض الحُكْم الجازم للمسائل المحسوسة المادية التي تقاس بأدوات العِلْم. وإنْ كان نقيض الاعتقاد فيسمى ( الخطيئة ). فلو قلنا أن السمكة تطير فهذا ( خطأ ) يمكن تصحيحه باللجوء إلى أحد العلوم كالرياضيات أو علم الأحياء ... أما لو قلنا أن السمكة إله فقولنا هذا ( خطيئة ) يمكن تصحيحه باللجوء إلى علم المنطق وعلم اللاهوت .. طبعًا السمكة كائن مادي نستطيع تمييز الخطأ والخطيئة وكشف الزيف الناشئ عن طريق تفسيرنا بالإدراك الحسِّي وليس عن طريق معطيات إحساسنا ... أما لو قلنا أن الملائكة لا تطير فلا يمكن أن نقول عن ذلك أنه ( خطأ ) لأننا لن نستطيع تصحيحه باللجوء إلى أي علم تجريبي ... أما لو قلنا أن الملائكة آلهة فقولنا هذا ( خطيئة ) يمكن تصحيحه باللجوء إلى علم المنطق وعلم اللاهوت .. طبعًا الملائكة كائن محسوس غير ملموس نستطيع تمييز الخطأ والخطيئة وكشف الزيف الناشئ عن طريق تفسيرنا باللجوء إلى عِلْمُ النفس الذي يكشف لنا تفاصيل ( أوهام النفس البشرية الطبيعية ) كأوهامُ التصوراتٍ المكتسَبةٍ . حيث الإدراكُ طريقةً ذاتيةً لرؤية الأشياء وتبني الأفكار. قد لا تتَّفق عليها جميعُ العقول.
انظر إلى عقول بعضنا ممن يعبدون البقر والفأرة وهم يملكون رغبة لاشعورية في قلب الخطأ إلى حقيقة والخطيئة إلى عقيدة ، وستقول لي : من أين جاءت هذه الرغبة الشعورية فأقول لك : لها مصدران :
1- الإنسان يلجأ إلى الكذب علة ذاته وتصديق اوهامه وتضليل قناعاته عن طريق إخفاء الحقيقة التي يتوهَّم أنها خطِرة على وجودِه الإجتماعي أوالاقتصادي أو الثقافي حتى !!
2- قد يقع الإنسان تحت ثأثير خداع اللغة وهي أداة الفكر حين تحمل الكلمات المعاني حملًا وتستخدم التشبيهات والاستعاراتٌ . فلو قلتَ عن رجلٍ أنه سعيد فإنك إما تقصد أنه يشعر بالسعادة والفرح وإما أنك تقصد أن إسمه سعيدًا وليس زيدًا أو عمرًا !! وهكذا لو قلنا ( احتل الجيشُ الأرَض ) فالسامع قد يفهم واهماً أننا نقصد أنه جيش العدو ، وقد يفهم السامع واهمًا أننا نقصد جيشنا الوطني !! فاللغة توهمنا ، سواء عن قصد أم عن غير قصد، إنها ترتدي قناعًا حين تحاول رسم الواقع ، فقولنا ( القدس عربية ) قد تستغل اللغة في نقل هذا المفهوم ، فلا تفرّق بين واقع نتمناه ونريده ، وبين صورة لفظية تصوّر واقع لم يحصلْ بعد .. أو تصّر لنا واقعًاٌ آخر قد لا نريده، وبدل أنْ تواجهَ اللغة الواقعَ تجعلنا نحتمي بصورة وهمية مخزونة في ذاكرتنا الفردية والجمعية .. حيث قام الآباء بتعليمنا عروبية القدس تعليمًا فصارت عبارة ( القدس عربية ) واقعًا في ذهنيتنا لايمكن توهم عكسه .. والخطورة هنا في الفذلكات اللغوية يكمن في الطرف المقابل ، فإسرائيل تعلم أولادها أن القدس عبرية وليست عربية وهنا يكون مصدر الوهم هو الرغبةُ بتزييف الواقع والإلتجاء إلى اللغة كقناع يحمي تلك الرغبة كي تنتِج الوهمَ. وتكرار تلك الألفاظ أمام الجميع سعيًا لتحويل الكلمات المجردة إلى واقع .. حيث تستمر عملية إنتاج الوهم الذي ينتِج الوهمَ .. حتى نطلق عليه في النهاية "إيديولوجيا فاعلة ".
أدوات الوهم
1- الحواس: أحيانًا تُرينا حواسُّنا الواقعَ على غير ما هو.فالمشرك يرى الصنم ويشعر بأنه إله ، إنه يراه بعينه مصنوع من الحجارة أو الخشب فلا يصدق أنه جماد لا ينطق .. حواسه تخدعه !!
2- الذهن: نحن نحفظ الذكريات والتجارب ثم نمتلك موقف معين من هذه الذكريات . وقد نرغب في تحويرها بدافع الأنانية. فالأنانية سلاح للوهم بل هي من أكبر مولِّدات الوهم... فبني إسرائيل كانوا يعرفون مصداقية نبوة الرسول محمد ، ولكنهم يحملون ذهنية خاصة تدفعهم لتكذيب تلك الصفات فيقعون في الوهم.
3- النفْس: رغباتنا محاطة بالمخاوف وتَستخدِم الوهمَ كأداة ترينا العالَم كما نرغب نحن أنْ يكونَ... بعض الصحابة حال بينهم وبين الدخول إلى الإسلام ( دوافع النفس البشرية ) ورغبتهم في أن يكونوا هم من الأنبياء .. قال تعالى {لولا نزل هذا القرآن على رجل من الفريتين عظيم}
أقول : من المعيب أن نفهم حقيقة إنتماءنا عن طريق اتِباع الموروث لآباءنا ، بل علينا التخلص من فخ الوهم والتبعية بل علينا محاكمة السائد والمألوف في كل الموروث الفكري ... بطريقة نقدية بِناءة قال الله تعالى : "يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبوا كثيرًا منَ الظَّنِّ".
/
يتبع .