رمضان : فقه البذل.
الصوم طقس سنوي مرتبط بوعينا لغايته ، فالغذاء وهو ضرورة حياتية يمكن أن يكون مصدرًا لأمراض جسدنا ! كما أن السيف وهو ضرورة دفاعية يمكن أن يكون مصدرًا لأمراضنا الاجتماعية ! وعقيدة الصوم ترشدنا أن نكف عن ما ألفناه في المعيشة اليومية حيث نستيقظ فنأكل صباحًا ثم نعمل ونأكل ظهرًا ثم يأتي المساء ومعه العشاء .. وثمة رابط خفي بين ثلاثية ( الغذاء/ الأخلاق/ العمل). فالجوع يستفزنا لتكوين الإرادة والعمل ضمن الحوض الإجتماعي فإذا ارتبط العمل بالإنصاف وجدنا العدل وإذا ارتبط العمل بالجشع وجدنا الظالمين يتحكمون في مفاصل مستقبلنا الإنساني .. هكذا يتحول الغذاء حافزًا للوعي بحقيقة وجودنا ومصيرنا ... ومن أجل ذلك تأمل معي تحريم الله تعالى لحم الخنزير والعلم اليوم يثبت أن بروتيناته تؤثر مباشرة على سلوكنا الأخلاقي .. فالصوم هنا ممارسة لمراجعة نظمنا الخلقية ونحن نعيش لحظات عصيبة من التناحر والانقسام وظاهر سلوكنا الوحدة المجتمعية تحت خيمة الهوية الإسلامية وباطن سلوكنا مرتهن بالأنانية وغياب مفهوم التضحية من أجل نهضة المجتمع ، حيث يظن الصائم أن الصوم شعيرة فردية تخصه هو - وحده - ويتغافل عن الوظيفة الأهم لما يفرزه الصوم من المسلم لمجتمعه وبالتالي لأمته الإسلامية .. وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في حالة مصادمة الصائم بمن يؤذيه أن يقول : إني صائم إني صائم .. لينبهنا إلى علاقة اجتماعية متوترة ..حين تتضخم لدينا (الأنا) ونصبح عاجزين عن الخروج من معضلة الصدام مع الآخرين بدل التوافق معهم وحين نقوم بمجاملة الصديق وهو المخطئ أو نقوم باستعداء المخالف وإن أصاب ! وبذلك نفقد (التوازن) في الحكم على المواقف وبالتالي تقييم الأشخاص. إن تسامح الإنسان يبدأ مع نفسه أولاً ! الذي يتيح له ألا يخضع للأفكار الـ(مسبّقة) سلبية كانت أم ايجابية ..
الصائم يتعرض لضغط ثقافة مجتمعه التي تدعوه لتجنب التدخل فيما لايعنيه لئلا يلقى ما لايرضيه حتى بالغنا في هذا التصور ففقدنا آلية تمحيص ونقد أي سلوك يصدر عن رجل السياسة وهو يتحكم في مصيرنا وأي سلوك يصدر عن رجل الإقتصاد وهو يتحكم بخبزنا حتى غدت البيئة الإسلامية فردية التوجه العام ، نصلي ونصوم ونحن نغلق العيون عن الأحداث في سوريا ومصر والبحرين .. في صورة انتحار لمؤازرة النص الشرعي للواقع حيث المسلم يمارس عباداته ويفصلها عن معاملاته وسبب ذلك مبدأ المنفعة الذاتية وتمسك المسلم بغريزة الذين كفروا وهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام لايعرف الواحد منهم مايحصل لمن يحيطه من البشر.
الصيام إذاً اسلوب في الجهاد الذاتي وتصحيح الإرادة لتربية النفس وفق معاني التضامن مع الجياع ومع المهجرين عن مساكنهم ومع المظلومين في السجون ومع النساء المهددات في عفتهم ومع المرضى واليتامى والمحرومين ، وقد قال الله عن غاية الصوم ( لعلكم تتقون )وما التقوى سوى التدريب المستمر على حمل أعباء هذا الدين والناس أجمعين .