وواضح حتى الآن أنّ نظرية الخليل لا تزال مطّرِدةً مع واقع الشعر إلى حدٍّ ما. إلاّ أنّ الملاحظةَ الدقيقةَ؛ أظهرتْ للخليل أنّ من الأنساق الشعرية ما لا تتكرر فيه المقاطع بصورة متماثلة أو شبه متماثلة؛ فلقد وقع الخليل على أنساق مثل:
•.. /ه //ه ... /ه /ه /ه //ه ... /ه //ه /ه (وهو ما سمّاه فيما بعد بالخفيف).
• /ه /ه //ه ... /ه /ه /ه //ه ... /ه //ه (وهو ما سماه بالمنسرح).
وهما من الأنساق الشائعة إلى حدّ ما في ذلك العصر. كما أنهما نسقان متشابهان تركيبياً؛ حيث يختلف أولهما عن الآخر بانتقال أحد الأسباب من أول النسق إلى آخره كما هو واضح.
وبالنظر إلى كيفية انقسام الأوزان المتماثلة والمتجاوبة، كان من المفروض أن يقسم الخليل مثل هذه الأنساق بأن يأخذ الوتدَ وما يسبقه من أسباب. إلاّ أن مثلَ هذا التقسيم لا يظهر عليه الاتّساقُ الظاهري الذي ظهر على البحور المذكورة آنفاً، كما أنّ وحدةً مثل (/ه /ه /ه //ه) يصعب تمثيلها بكلمة واحدة طويلة لثقل النطق بها.
وهكذا كان على الخليل -في مثل هذه الأنساق- أن يجدَ طريقةً مقْنِعةً لتقسيمها إلى وحدات، إن لم تكن متماثلة فلا أقلَّ من ظهورِ الاتّساق فيها. وهكذا توصّل إلى تقسيمها سُباعِيًّا هكذا:
/ه //ه /ه ... /ه /ه //ه ... /ه //ه /ه (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن)
/ه /ه //ه ... /ه /ه /ه / ... /ه /ه //ه (مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن)
حيث يظهر في مثل هذا التقسيم اتساقٌ بين تفعيلتين متماثلتين بينهما تفعيلة ثالثة مختلفة. وبدتْ بذلك معظمُ الأنساق عنده ظاهرةَ الاتساق، مُقْنِعَةَ التقسيم إلى حدٍّ ما، على الرغم من ظهور وحدتين جديدتين لا تجريان على ذات النسق للتفاعيل الست الأخرى. فبينما تبتدئ التفاعيل الأخرى بوتدٍ أو تنتهي به، فإنّ (فاعلاتن /ه //ه /ه) تضمّ وتدًا بين سببين، و(مفْعولاتُ /ه /ه /ه /) تفعيلةٌ لا وتدَ فيها، بل إنها أدّت إلى شطْرِ وتدٍ مجموعٍ إلى جزأين، يَنضَمُّ ثانيه إلى تفعيلةٍ أخرى عادةً.
إلاّ أن الخليلَ توصّلَ بهذه العمليةِ التركيبية إلى تمثيل الإيقاع الشعري بكلماتٍ مجرّدةٍ ليست بذات معنى، ولكنها قادرةٌ على حَمْلِهِ وإيصالِه. وربما كانت هذه غايةُ الخليل في البداية.
ومما يدلّ على هذه الغاية عند الخليل؛ قِسْمَتُهُ البحرَ الخفيفَ إلى (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) على الرغم من وقوعه في دائرةٍ واحدةٍ مع السريع والمنسرح والمقتضَب كما يلي:
السريع = مستفعلن مستفعلن مفعولاتُ
المنسرح = مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن
المقتضب = مفعولاتُ مستفعلن مستفعلن
الخفيف = فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
فلَوْ لم تكن غاية الخليل هنا هي تمثيل الإيقاع بكلماتٍ مجرّدةٍ تحملُه، لكانَ من المفترض أن يضمَّ الخفيفُ التفعيلة (مفعولاتُ) كغيره من بحور دائرته هكذا: (فاعلن مفعولاتُ مستفعلاتن).
وقلْ مثلَ ذلك في قسمته لبحر الرمل.
يتبع...