اَخذ نفساً عميقاً سحبهُ من بين دخانِ عوادمِ المركبات والغبارِ المتصاعد..وقفَ إلى جوار حائطِ الذكريات حيثُ سور مدرسةِ الحيّ...تراجعَ مسنداً ظهره إليه ..تسمّرت رجلاه حيث لا زال واقفاً منذ حين متأمّلاً ما حوله ومَنْ حوله .. الشارعُ العتيق المتشرّب بعبق الماضي.. والحيُّ من حوله يعجّان بالحركة.. أجسادٌ تمرّ .. قهقهاتٌ تخترق رتابة المشهد..مركبات تطلقُ أبواقها في أَجواء الحيّ المكتظّ..باعةٌ جائلون يتصايحون.. بينما لا يزال يستدعي ذكرياتِه مع صديقه الغائب هناك في الجانب الآخر..
شيءٌ ما يشدُّه الى ذاك الجانب الآخر من الطريق..يحاولُ أن يجتازَ بجسدهِ إلى هناك لكنّه يكتفي بارسالِ نظراتِه الى الجهةِ الأُخرى حيث اعتادَ أن يرسمَ مع رفيقِ دربِه خُطاهُما كلّ يومٍ من المسجد الى المكتبة..ثم الى ذلك المقهى الهادىء حيث كانت تجمهعما جلساتٌ تصافحت فيها الأرواح..كانت جولتهما مراسم يومية لا يتخلفان عنها إلا إذا حزَبهما شأن .
بخطوٍ ثقيل جرّته قدماه الى الجانب الآخر..مرّ بالمكتبة..فكّر في الدخول ..لكنّ نفْسَه لا تطاوعه..انثنى وتابع خطوه الوئيد الى المقهى..دلف ببطء ٍ..اختارَ ذات الطاولة حيث كانا يجلسان..وضع نظارتَه ..دفن وجهه بين كَفيْه، ثم أطلق زفرة .. شخَصَ ببصره إلى الأعلى ثم رسمَ بتجاعيده لوحة ً من أسى.. و أطرق..
جاءَه النادل..اقتربَ منه بصمت..وضع أمامه كوب الماء ..
- سأحضر لك القهوة.
- قل لي ..أم يأتِ؟
صمت النادلُ برهةً ثم استدار مُلقياً عبارة النفي خلفَه قبل أن يذهبَ ليتابعَ طلباتِ الزبائن..
دقائقُ مرّت ..نظرَ فيمن حوله..احتسى فنجانَ قهوته..جال بعينيه في أجواء المقهى..استقرَّ بنظره على الكرسيِّ أمامه حيث كانَ يجلس رفيقُ عمرِه ..مدّ ذراعه إليه ..هزّ الكرسي بيدٍ مرتعشة..ثم تراجع..
اَخرجَ هاتفَه المحمول..مرّبسبّابته المرتجفة في سجلّ الاسماء..ثمّ ضغطَ على مفتاح الارسال..
انطلق الجرس في الجانب الاخر..
- أين أحمد..؟
- يا حاج ..يهديك الله.... هذه ثالث مرةٍ تتصل فيها..لقد أبقينا هاتفََه يعمل لتلقّي اتصالات أصدقائهِ ممّن لم يصِلْهم خبرُ وفاته في حينه..ونحن مضطرون لقطعه الآن..الله معك!
وأُغلـِق الخطّ..
ابتلَع ريقَه..وآخرَ ما تبقّى في فنجانِ قهْوته..ضمَّ بيديه مِعْطفَه إلى صدرهِ ثمّ دسَّ هاتفه المحمول في جيبه..أرسل بصرَه إلى الشارعِ المزدحم مرةً أخرى ..شعر بأنّـه وسط الضجيج أكثر فأكثر.. ثمة شيء يجرُّه إلى هناك....طفلٌ يتعلقُ بكفّ أبيه وينظرُ فيمنْ حولهُ مستطلعاً بعينين بريئتين....فتاةٌ تختال بين قريناتها.. و شباب ٌيتخافتون مختلسينَ نظراتٍ هنا وهناك.. أطفالٌ يتراكضون فرحاً بعد انتهاء يوم دراسي .. بائعو الخضار يرسلون أهازيجهم استدراجاً لمشترين ..طاعنٌ في السن لم يعدْ يقوى على الصّعودِ ببصَرِه إلى مستوى منكبيه فأسلم رأسه للأرض متكئاً على عصاه..
شعر أن ثمةَ فجوةٍ له يمكنه أن يعبرمنها إلى الزحام ..استجمع قواه ..نهض خارجاً..ثم غاب بينهم..