عينان سابحتان في الفراغ تحدقان في مشهد سكن الأعماق.كان للتو قد دفن أشلاء الجسد الواحد والعشرين في قائمة يرتعد من استطالتها.
في كل مرةٍ ينزل بالكفن إلى جوف القبر يسأل نفسه "من سيكون التالي ؟"
لم يعد لداره التي اعتاد أن يتزمل تحت سقفها بعد ارتطام المجرات في رأسه و انفجار حمم الدماء و براكين الغضب التي تعتلي الصدور. عوضًا عن ذلك قصد المسجد الذي قتل فيه أخوه "عمر".
كان الإنفجار قد أودى بحياة العشرات وأضعافهم من الجرحى ممن غصت بهم الطرقات والمستشفيات.تحسس يديه, تمنى لو كان بمقدورهما جرف سيل الموت لكنهما الآن ترتجفان.
الأرض حول المسجد ملطخة بنجيع يأبى أن يغور في باطنها و الشمس تتردد في الأفول لا تغيب إلا بغياب أرواح معها أو هكذا خيل إليه.
شعر برغبةٍ عارمةٍ في الدخول إلى المسجد والصلاة فيه ,و لكن النذير الأحمر هناك طاف أمامه وهو يسوق خيال " عمر " .التفت إليه... ابتسم له ثم توجه إلى القبلة و كبر!
خرج مسرعًا وجلًا و خليط أصوات زوجته و مناغاة طفله يدوي في رأسه. طرق الباب ففتحت له :
_أين كنت؟ ماذا جرى؟
_لماذا غبت عن العزاء؟
لكنه لم يسمع شيئًا من سيل الأسئلة.كل ما أمِل به أن يكونا بخير فتنفس الصعداء.
غارت النجوم وهدأت عيون إلا عينيه كانتا تتقلبان بين منظر الدماء والأجساد المتناثرة .بالكاد غفا قبيل الفجر.
في هذه الأثناء كانت عجلات الهمرات تلقف الأرض ,والقناصة جراد منتشر على أسطح البنايات المجاورة لبيته. خرج بعض سكان الحي شُاااهودًا على مشهد متكرر.خلف الجدران أكوام من البشر تحدق في الأبواب المغلقة بإحكام. تتسارع نبضات قلوبهم كلما تعالت الأصوات في الخارج .يكتمون الأنفاس و دفقات الخوف تدب دبيب النمل في أوصالهم. قام فزعًا لأول وهلة لكنه كان قد تصالح مع الخوف منذ أن بدأ يدفن عائلته وجيرانه الواحد تلو الآخر.
سمع جاره "أبو ثائر" يقول: هذا البيت سيدي!
تحسس مسدسًا قديمًا بات ملازما لمخدته ,ثم اقترب من الباب. أشاح وجهه عن طفله و زوجته النائمين في دعةٍ. همس لهما بكلمات في الهواء. أمسك بمقبض الباب ثم ابتلعه الظلام. تلاهُ دوي رصاص وصرخات ثم صمت لم يعلم كنهه أحد.