حين يفتح النوم لك جداره الأسود ،
ماذا ترى ؟ من ستكون هذا المساء ؟
ج. ل. بورجيس
استجاب لنداء المنبه أخيراً ، بيد متكاسلة ضغط على زر الإيقاف ، ثم نهض وهو ما زال مغمضاً عينيه يغلبه التكاسل ..
يريد أن ينهض ، يعد كوبه قهوته الصباحية ، يستقل الحافلة إلى عمله ، يؤدي مهامه الروتينية ، تنقضي دقائقه كساعات وساعاته كأيام .. ثم في طريق العودة يعرج على بيتها القريب .. ويراها ..
أيها الملاك المقدس ، نسمة الحب على وجه الأرض ، روح الحياة الطيبة في كونٍ قاسٍ لا يرحم ..
لا يمكنه الانتظار إلى ما بعد عودته من العمل .. هذا أقصى مما يستطيع تحمله ..
يرفع هاتفه الخلوي ، يضرب رقمها فيطرب قلبه رقصاً على نغمات أزراره ..
وأخيراً .. بعد انتظار طويل وقعه ، ترد بصوتها الهامس .. تتسلل كلماتها على قلبه فلا يسمع شيئاً ..
إنها روحها تسافر عبر الهاتف لتعانق روحه / إحساسه / كيانه .
من نافذة غرفته يشاهد بيتها المكون من طابق واحد غير بعيد عنه ..
أراكِ من شباكي يا غاليتي ، أشعر بك وكأنك معي ، أعيش على وقع صوتك ..
- اشتقتك ..
تقولها بحياء فيرقص قلبه طرباً ..
يريد أن يصرخ ، بأعلى صوته ، أن أحبك ..
يفتح النافذة على مصراعيها ، يجفل لصوت غراب يحوم بالجو .. يبدد أحلام العاشقين ..
أي حبيبتي .. أرى الغربان فوق رأسك فاحذري ..
الصوت يزداد قوة ، والدنيا تزداد قتامة ، والصباح تصبغه ألوان أخرى أكثر غرابة ..
يصرخ بها ..
لكن همسها يجيبه :
- لا تخف أي حبيبي .. لم أفعل شيئاً ليفكر هؤلاء بإيذائي .
الطيور تتوارى قليلاً عن الأنظار ، يختفي صوت العصافير ولون الصباح ، تزداد السماء قتامةً ، وفي لحظة واحدة يعلن الليل هبوطه فجأة ..
أراك أنا ، أسمع أصوات الصراخ في كل مكان ، أشعر بروحك تغادرني ، تتركني وحيداً فانياً ، لماذا تفعلين بي هذا .. لماذا ؟
أيتها القاسية .. لماذا لم تهربين ؟ لماذا لم تشعرين بخطرك عليهم .. ؟
قلبك المحب يشتتهم ، يصيبهم في صميم عقيدتهم ، حقدهم يأبى أن يرى كل هذا الحب .. كل هذا العطاء ..
يصرخ ، يضرب نافذته بيديه حتى يجرحهما ، يرتجف جسده ، يعود إلى سريره ، يغطي نفسه ويتلوى أسفل الفراش ..
لم أنهض بعد .. لازلت أحلم ..
يغفو قليلاً ..
يتيه الحلم بين ذراعيه ..
يوقظه جرس المنبه على صباحٍ آخرْ ..
*********