تركَ الإمام والفقيه ابو محمد عليّ بن أحمد بن حزم الأمويّ الأندلسي المتوفى سنة 456 هجرية الموافق 1064 للميلاد تراثاً كبيراً في الفقه وعلوم الشريعة ، منها : الفصل في الملل والأهواء والنحل، الإحكام في أصول الأحكام، المحلّى شرح المجلّى، طوق الحمامة .. وغيره الكثير.
والإمام ابن حزم يعدّ واحداّ من أبرز علماء الاندلس و أكثرهم تأليفاً بل و من أبرز علماء الإسلام.
والكتاب الذي بين أيدينا هو " كتاب الأخلاق والسير" أو رسالة في مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل..
ولا أدري إن كان الكتاب قد أشير إليه من قبل في واحتكم المباركة..فإن كان ذاك فاعذروني على التكرار.. ولعلّ فيها إفادة.
والكتاب على ما احتواه من النصائح والتوجيهات .. فيه سبرٌ في اعماق النفس ولذلك تناوله كثير من الباحثين في هذا المجال.
والطبعة التي بين يديّ صادرةٌ عن دار إبن حزم، راجعها وعلّق عليها الأستاذ عبد الحق التركماني.
قال في مقدّمته : .. أما بعد فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة .. أفادنيها واهب التمييز -تعالى- بمرور الأيام، وتعاقب الاحوال، بما منحني عزّ و جلّ من التهمّم ( الطلب ) بتصاريف الزمان ، والاشراف على احواله حتى أنفقتُ في ذلك اكثر عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه.."
ومما جاء في الكتاب :" لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته.. ولذة المجتهد إلى الله تعالى باجتهاده،أعظم من لذة الآكل باكله ، والشارب بشربه ، والواطئ بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره. وبرهان ذلك : أن الحكيم، والعالم، والعاقل، والعاملَ، واجدون لسائر اللذات التي سميناها كما يجدها المنهمكُ فيها، ويحسونها كما يحسّها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها، وآثروا طلب الفضائل عليها.. وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما، لا من عرف أحدهما، ولم يعرف الآخر.
"إذا تعقّبت الأمور -كلها- فسدت عليك، وانتهيتَ في آخر فكرتك باضمحلال جميع احوال الدنيا إلى أن الحقيقة إنما هي : العمل للآخرة فقط. لأن كل أمرٍ ظفرت به فعقباه حزن..إما بذهابه عنك، او بذهابك عنه، ولا بدّ من أحد هذين السبيلين إلا العمل لله عز وجلّ ، فعقباه على كلّ حالٍ سرورٌ في عاجلٍ وآجل، أما في العاجل، فقلّة الهمّ بما يهتمّ به الناس، وأنك به معظّمٌ من العدوّ والصديق، وأما في الآجل فالجنة."
"تطلبت غرضاً يستوي الناس- كلّهم- في استحسانه وفي طلبه، فلم أجده إلا واحداً وهو طرد الهمّ..فلمّا تدبّرته علمت ان الناسَ كلّهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف اهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإرادتهم، لا بتحرّكون حركةً إلا فيما يرجون به طرده، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن انفسهم، فمن مخطئٍ وجه سبيله، ومن مقاربٍ للخطأ، ومن مصيب، وهو الأقلّ من الناس في الأقلّ من اموره ، والله أعلم.
" ووجدتُ العمل للآخرة سالماً من كلّ عيب، خالصاً من كلّ كدر، موصلاً إلى طرد الهمّ على الحقيقة."
" وباذل نفسه في عرض الدنيا ، كبائع الياقوت بالحصى"
" بابٌ عظيمٌ من أبواب العقل و الراحة، وهو اطّراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق عزّ وجلّ، بل هذا باب العقل كلّه، والراحة كلّها."
.. وغير ذلك كثير مما فاض به الكتاب من حكمةٍ ودعوة للزهد والتفكّر. جديرةٌ بالقراءة.
ولكم جميل التحايا.