الحمد لله رب العالمين بجميع المحامد على جميع النعم والصلاة والسلام على إمام أهل البيان سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته . وبعد
فهذا ملخص لبحثي عن أديب العروبة والإسلام المجاهد تحت راية القرآن الكريم السيد ، مصطفى صادق الرافعي ، أمير البيان
أولاً : مدخل البحث : ـ
شاء الله تبارك وتعالى أن توجد معارك بين الحق والباطل مادام الناس على هذه الأرض وفي ذلك اختبار وتمحيص لتجزى كل نفس بما تسعى ، وإذا كان لكل معركة جندها المنحازون لها الحاملون رايتها فقد هيأ الله سبحانه وتعالى قلوباً موقنة ونفوساً زاكية وأقلاماً واعية لخدمة كتابه العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وخدمة لغة هذا الكتاب الخالدة بخلوده ؛ ففاضت أنوار تلك القلوب على أصحاب هذه النفوس فاهتزت أقلامها الواعية وربت فجاءت بكل نافع ومفيد وأخرجت لنا من عجائب المعاني القرآنية ـ التي لا تنقضي أبداً ـ درراً ومن عذب موارده سلسبيلاً سائغاً شرابه لذة للشاربين . كما كانت هذه الأقلام سيوف حق شرعت في وجوه المعتدين المعاندين فردتهم على أعقابهم خاسرين وتابعت فلولهم أينما كانوا وحيثما وجدوا وأصلتهم من نيران مدادها ما أحرق مسطور أوراقهم ونبهت إلى ما تحمله أفكارهم من كيد ولؤم ومكر .
لقد خاض الرافعي معارك عنيفة في شتى ميادين الثقافة مدافعاً عن لغة القرآن الكريم وتراث الأمة العربية والإسلامية في الوقت الذي علت فيه أصوات الماكرين بلغة الضاد والحاقدين عليها تحت دعاوى براقة تتخذ من الحداثة والحضارة والتقدم ستاراً لتفويت المكر وبث الحقد وقد فاتهم أن الله قد قيض لهؤلاء الماكرين الحاقدين من يقف لهم بالمرصاد نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ العلامة محمود محمد شاكر الذي كشف الستار عن تلك الأقلام التي طالما حاولت هدم الإسلام عن طريق الطعن في أحكامه القطعية ولغته التي اختارها الله بياناً لكتابه ـ نسأل الله التوفيق للاحتفاء به قريباً بعونه وتوفيقه ـ وأستاذ البيان العلامة الفارس المجاهد مصطفى صادق الرافعي الذي نحن بصدد الحديث عنه والذي عاش حياته واقفاً لهؤلاء المكرة الحقدة بالمرصاد كاشفاً مكرهم وحقدهم مفنداً آراءهم مبيناً زيفهم وقد مكنته نشأته الدينية وحفظه للقرآن الكريم ودراسة أحكامه في سن مبكر وكذلك ثقافته الحياتية العامة وتعمقه في الثقافية الأدبية والتراثية بصفة خاصة وتأصل عاطفته الإيمانية العالية وحسه المرهف الصادق كل ذلك مكنه من ناصية البيان والسمو إلي مشارق النور ومعارج الإلهام فجاءت كتاباته الإيمانية دفقات روحيه متنوعة المشاهد والطعوم " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"
. ثانياً: زمان الرافعي :ـ
أما عن زمن الرافعي وما ماج به من حركات انحلالية شاذة ودعاوى إلحادية متطرفة ومواقف تكتيكية ماكرة تهدف في مجموعها إلى تدمير اللغة والقضاء على الدين قادها الحاقدون على الدين المارقون عن آدابه المنحلون المتحللون من القيم دلسامية والأهداف النبيلة فيحدثنا الدكتور مصطفى الشكعة قائلاً :" كانت مجموعة كبيرة من الكتاب في مصر ـ وأكثر كتاب تلك الحقبة كانوا مصريين أو عرباً يعيشون في مصر ـ تناصب العربية العداء وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا أنهم كانوا أيضاَ يناصبون الإسلام العداء ، ونحن نستطيع أن نحصي أسماءهم ، ولكننا لا نفعل إلا متى دعت الضرورة إلى ذلك.لأن الكثرة منهم قد صلح أمرها فيما بعد وأعلنت توبتها وأقبلت على المعاني والمبادئ الإسلامية دراسة وتمجيداً ، ولأن كثرة أخرى منهم قد رحلت عن عالمنا ونخشى أن يكون ذكرنا لأسمائها يتصور على أنه نيل ممن ترك دارنا وهو عاجز عن الرد على تبرير المواقف الني اختارها لنفسه إبان رحلة حياته ، هذا وإن كان منطق التاريخ لا يعرف المجاملات ، ولكن مادام حديثنا مقصوراً على شخصية الرافعي ، فليكن مذهبنا يسط الأضواء عليه ، ولا علينا إذا أشرنا إلى الآخرين منى دعت ضرورة المنهج العلمي والتاريخي إلى ذلك".
ثالثاً : الأهداف كما حددها الرافعي : ـ
يقول الأستاذ الرافعي : " والذي أراه أن نهضة الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخاصان ؛ الدين الإسلامي واللغة العربية وما عداهما فعسى ألا تكون له قيمة في حكم الزمن الذي لا يقطع بحكمه على شيء إلا بشاهدين من المبدأ والنهاية . ويستطرد الأستاذ الرافعي مبيناً التغيير الذي لا بد منه إذا أردنا التغيير قائلاً في المقال نفسه : " وإذا كان لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير ، فإن رجوعنا إلى الأخلاق الإسلامية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغيير وما تصلح به منه ، فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها ، وانقطع ما بيننا وبين البعض الآخر ، وإذا نحن نبذنا الخمر والفجور والقمار والكذب والرياء ، وإذا أنفنا من التخنث والتبرج والاشتهار بالمنكرات ، والمبالغة في المجون والسخف والرقاعة ، وإذا أخذنا في أسباب القوة ، واصطنعنا الأخلاق المتينة من الإرادة ولإقدام والحمية وإذا جعلنا لنا صبغة تميزنا من سوانا وتدل على أننا أهل روح وخلق ، وإذا كان ذلك كله ، فلعمري أي خير في ذلك كله ؟ وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الصحيحة ، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها ؟! "
وفي قول حاسم يبين لنا الرافعي أنه لا يبحث في الأصل مسألة الجديد والقديم إنما يبحث ما وراء تلك المذاهب الهدامة والغرض من تحرك أصحابها واتخاذهم دعاوى التجديد هدفاً للوصول إلى أغراضهم فيقول تحت عنوان ( فيلسوف وفلاسفة ) : " ..فالذي بيننا وبينهم ليس القديم والجديد ولا التأخر والتقدم ، ولا الجمود والتحول ؛ ولكن أخلاقنا وتجردهم منها ، وديننا وإلحادهم فيه ، وكمالنا ونقصهم ، وتوثقنا وانحلالهم ، واعتصامنا بما يمكننا وتراخيهم تراخي الخبل لا يجد ما يشده " .
رابعاً : نتائج معارك الرافعي :ـ
أسوأ ما في المعارك الفكرية أن يعلم المرء أنه على الباطل ولكنه يستمر في هذا الباطل لا لشيء سوي الظهور في قوة المنتصر ، ولكن للحق صولة ولقوة صاحب الحق أثر فاعل مهما طال أمد الصراع ؛ فقد يأتي وسط هذا الصراع وميض فكري يجعل من أراد الله له الهداية يغير مسير فكره ويعود إلى الرشد والصواب وسبحان من بيده ـ وحده ـ تقليب القلوب وتبديل الأحوال !
وعن أثر الرافعي في أدباء عصره يقول الدكتور الشكعة : " على أننا هنا ـ في مجال الكتابة للتاريخ ـ نقرر أن الرافعي بريادته للكتابة في ظل الفكرة الإسلامية كان هادياً لمعاصريه من الكتاب الذين قدر لهم بسطة في العمر من بعده ، وكانوا خصوماً للإسلاميات ظاهراً أو باطناً ، ونستطيع في غير ما حرج أن نذكر أسماء المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد ، والمرحوم الدكتور محمد حسين هيكل ، والمرحوم الدكتور منصور فهمي ، والأستاذ الدكتور طه حسين مد الله في عمره.ليس ثمة شك في أن العقاد في مستهل حياته الأدبية وحين معاصرته للرافعي كان يجمح من كل فكرة إسلامية ، وتنسب إليه ـ إن صدقاً وإن كذباً آنذاك ـ أقوال تباعد بينه وبن الإسلام ، ولكن لا يلبث العقاد أن يشرح الله صدره فيصير رافعياً في قلمه ، إسلامياً في فكره ، وتجود قريحته التي هداها الله لنور الإيمان بالكتب الإسلامية العديدة التي أثرت المكتبة الإسلامية مثل " عبقرية نحمد " و " عبقرية عمر " و " عبقرية الصديق " وغيرها من العبقريات ، وكتب أخرى للدفاع عن الإسلام مثل " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه " ومثل " ما يقال عن الإسلام " إلى غير ذلك من الكتب الإسلامية العديدة التي أنهى بها العقاد حياته في رحاب الإيمان ، ومهما كان الأمر من حيث تقويم الأعمال الإسلامية لكل من الكاتبين الكبيرين الرافعي والعقاد فإن للرافعي فضل السبق والريادة .
وفي مجال الحديث عن الدكتور منصور فهمي , فالذين عاصروه ، في شبابه وهو يعبر عن أفكاره يذكرون له المواقف التي لم تكن تنسجم مع الإسلام في قليل أو كثير بل إن له أفكاراً كانت حرباً صريحاً على الإسلام ، وإذا كان الدكتور منصور فهمي لم يترك من الآثار الفكرية الإسلامية ما يمحو سالف أفكاره ، فإن الذين عايشوه في السنوات الأخيرة من حياته قد لمسوا فيه نور الإيمان ، ومواظبته على الفرائض وعضويته لمجلس إدارة الشبان المسلمين ومحاضراته العديدة عن الإسلام في مختلف المنتديات وانتهت حياته ـ رحمه الله ـ وهو أكمل ما يكون إيماناً وأعظم ما يكون إسلاماً
وإذا كان لنا أن نتحدث عن الدكتور طه حسين ، فقد سبقت الإشارة إلى أن كتاب الرافعي " المعركة تحت راية القرآن " إنما أنشئ للرد على ما جاء في كتابه " في الشعر الجاهلي " من بعد عن الإسلام وإساءة إليه ، الأمر الذي جعل الدولة تصادر الكتاب وتجمع نسخه من المكتبات ،/ ثم عاد الدكتور طه حسين فأصدره من جديد بعد أن حذف منه كل ما كان سبباً للمعركة الضارية وبعد أن غير عنوانه وجعله " في الأدب الجاهلي " بدلاً من " في الشعر الجاهلي ".
وتعمل نفحات الرافعي عملها مع طه حسين ، تماماً كما فعلت مع العقاد ومنصور فهمي ، وإذا بالأستاذ الدكتور طه حسين يخرج للقارئ المسلم والقارئ العربي روائع كتبه الإسلامية مثل " على هامش السيرة " ، و " الوعد الحق " ، و " الشيخان " ، وغبرها .
وما يقال عن هؤلاء جميعاً من عودة إلى رحاب الإيمان بالعقيدة التي طالما حاربوها يمكن أن يقال عن الأستاذ أحمد لطفي السيد الذي وقف حرباً على اللغة العربية يطلب تمصيرها أو بمعنى آخر تشويهها , وقد كان للرافعي معه صولات وجولات .
إن نفحة رافعية قد أعادت لطفي السيد إلى حظيرة جلال اللغة وجلال الدين الذي هي لغته وينتهي الأمر به في سنواته الأخيرة رئيساً لمجمع اللغة العربية وتنقضي حياته الطويلة وهو في هذا المنصب الذي لا تستقيم طبيعته مع ماضي صاحبه ، ولكنه التحول عن الفكر الخاطئ ، إلى الخط الصائب قد جعل من خصم اللغة العربية رئيساً لمجمعها وشيخاً لعلمائها .
وأختم حديثي عن هذا الإمام العملاق الفذ بما جاء في كتاب الدكتور مصطفى الشكعة ( لقد كان الرافعي خيراً على اللغة العربية الجليلة بمنافحته عنها وخدمته لها وفنائه في الذود عن حياضها ، ولقد كان الرافعي كذلك خادماً للعقيدة الإسلامية ، مبشراً بالفكرة الدينية ، حاملاً لواءها حتى غادر دنيانا ولا زال ممسكاً بقبضته السارية ، فهل من بين أدباء المسلمين من يتسلم العلم ؟
خامساً : بين الماضي والحاضر :ـ
أستطيع الفول بأن الصحف والمجلات التي وجدت في النصف الأول من القرن الماضي كانت أكثر حرية وإفادة من صحف ومجلات اليوم حيث كانت تفتح صفحاتها للجادين بغض النظر عن ميولهم أو شهرتهم أو شخصياتهم أو مناصبهم ولولا هذه المرونة والتنافس بين الصحف والمجلات والتشجيع على التعامل مع كل صاحب فكرة جديدة أو رأي مثير أو صاحب حق في رد مقنع ما رأينا أو سمعنا أو قرأنا للكثيرين من عمالقة الفكر والأدب .
إننا بحاجة ماسة إلى المزيد من إفساح المجال لحرية الفكر والرأي وإفساح المجال للرأي المخالف وذلك بتعاون القائمين على صحفنا ومجلاتنا وهذا ما نأمله منهم ونرجوه لههم حتى تكون هناك فرصة لظهور مثل هؤلاء العمالقة السابقين . نسأل الله تعالى أن يحقق لنا ما نصبوا إليه خدمة لديننا ووطننا بحوله سبحانه وتعالى وقدرته ورحمته وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .