غموض طوال الأشهر الماضية حول شخصية الرجل الذى صار يتردد ذكره على ألسنة المصريين ، زادتْ حدته بعد تكهنات حول مصيره والامعان فى اختفائه عن الأنظار ثم الظهور فجأة ليكذبها ، ليعقب ذلك تكرار لمسلسل الغموض واصرار على اللعب بهذه الورقة التى تبقى الرأى العام دائماً فى حالة حيرة وتطلع وشغف .
تلك هى اللعبة المدروسة ، ليصل الجدل والحيرة والغموض بصاحب الشأن الى أعلى درجات الشهرة والمجد الجماهيرى ، فلا يكاد يطاوله أحد ، بالرغم من أن تاريخه خال من الاثارة والانجازات الكبيرة المبهرة ، ولهذا السبب تحديداً كان لابد من زيادة جرعة الجدل والحيرة بشأنه ليظل دائماً هو حديث الساعة ؛ فما سبب اختفاؤه وأين هو وهل قُتل حقاً كما يدعى الاخوان وكيف قتل – مسموماً أم طلق نارى - ، ومن قتله أهو أحد ضباط النخبة – أين هم الآن وأين بياناتهم وهل كانت وهماً أم عملاً مخابراتياً مقصوداً – أم تخلص منه زملاؤه بعد أن أيقنوا أن سفينتهم تغرق وأن الاخوان على وشك الرجوع وأن " الانقلاب " سيندحر " ، يُقال أنه أصيب اصابة بالغة نتيجة طلق نارى فى الرأس ... الخ ، ويظهر الرجل بعد أن نضجت الشائعات تماماً وسرت الأخبار اليومية بشأنه وعلت شهرته بألسنة خصومه ، ثم فى مرحلة لاحقة على ألسنة مريديه يصبح بطلاً مرغوباً رغم أنفه ، ليظهر بصورة المتمنع الزاهد المتعفف عن الطمع فى كرسى أو منصب رفيع وأن هناك من يطالبه ويفرض عليه الزعامة فى هذه الظرف التاريخى الحرج ، ليرتفع على أكتاف الجماهير ذلك المخلص الذى صحح المسار الذى سيخلده التاريخ .
ليس هذا فحسب بل يستدعى الاعلام والنخبة المثقفة أسوأ ما فى شهرة الزعامة من مرض يعذب رجال الوطن بالنقص ويؤرق ممثلى السينما ذوى الوسامة عندما يُشاع بأن معظم النساء مولعات به وفى انتظار غمزة من عينه لنقرأ فى صفحته سيناريو فيلم " يوم خاص " الذى أبدعت فى أدائه صوفيا لورين ، وفيمَ يعترف نادر بكار بمشاهدته لفيلم " المصلحة " لأحمد السقا ؛ فمصلحته تحتم عليه ألا يقترب من شاشة السينما الايطالية ، وخاصة عرض " يوم خاص " الذى يجسد واقعاً أخشى أن يصبح واقعنا المهترئ شبيهاً به ؛ فكل شئ للزعيم ؛ الأولاد والأغنيات والاعلام – كان فقط المذياع الذى يبث خطب الزعيم - وعرق الرجال وأرحام النساء ، ليصبحَ الأب المُضاجع مجرد وسيط لانجاب النسل فى حضن تقديس البطل وخدمته والسمع والطاعة له بملامح متقاربة ولبس موحد ، وهكذا حملت الايطاليات من الدوتشى – كما فى يوم خاص - .
هل يدركون خطورة وكارثية ما يصنعون ، وهل تابعوا الأفلام القديمة حتى نهايتها ، أم هم فقط عاكفون مع بكار على متابعة فيلم " المصلحة " ؟
الغموض يحيط بالزعماء التاريخيين حتى بعد رحيلهم وصار اختفاء هتلر لغزاً كبيراً أثار حيرة وقلق قوات الحلفاء وتشككوا فى شائعة انتحاره مع عشيقته وقيل أنهما هرباً الى بارفيا الألمانية وقيل بل الى أمريكا اللاتينية ، وأهم ما فى القصة عقدتها وعبرة النهاية ، وقد صار الرجل بالألمان الى الحرب والموت وعندما سقطت نبوءة الرايخ الثالث ووهم الاستمرار لألف عام تنكر لشعبه وتنكر شعبه له ولفظ كلاهما الآخر ، وتلقى الشعب نبأ الانتحار بحفاوة ، بل عمد الألمان لاقتلاع هذه المرحلة من تاريخ ألمانيا وذاكرتها فأطلقوا على العام الذى رحل فيه الزعيم " عام الصفر " .
وكلما رحل زعيم يلعنه الناس وكلما جاء أحدهم حاول جاهداً تشويه سلفه ، وقد حاول الملك فاروق على حساب النحاس باشا وحاول عبد الناصر على حساب الملكية وحاول السادات على حساب عبد الناصر ومبارك على حساب " صاحب المحل " ، ولم يكن الدكتور الببلاوى سيئاً جداً قبل أسبوع لكن تلاحقه اللعنات الآن وليذهب غير مأسوف عليه !
المرحلة احتاجت صناعة شهرة واسعة لشخص ما ليكتسح بجماهيريته الخصوم ولتدحر شرعيته الشرعية المزعومة ، وأسهم بالفعل مناخ الجدل والغموض والحيرة فى نجاح الخطة التى تدخل هذه الأيام مراحلها الأخيرة .
هيترشح .. مش هيترشح .. هيترشح !
حيرة وغموض آخر فى نفس السياق ولتحقيق نفس الهدف .
سيترشح وسينجح ، وماذا فى ذلك ؟
لا شئ ، لكن تعلمنا من التاريخ شيئاً يبدو هزلياً بالمقارنة بين البدايات والمصائر ، وهو أن النجاح ليس فى الانتخابات ، انما فيما بعد ذلك .