قضية للنقاش :
هل يجوز للمسلم أن يشارك في حكومة غير إسلامية ؟
وأبدأ النقاش لا برأيي ( فأنا أحتفظ به إلى آخر النقاش ) وإنما برأي الأستاذ أبي الأعلى المدودي في كتابه (الحكومة الإسلامية) :
تناول الأستاذ أبو الأعلى المودودي من قصة سيدنا يوسف عليه السلام ما استدل البعض منه أنه يجوز أن يشارك المسلم في حكومة غير إسلامية ، وذلك في كتابه ( الحكومة الإسلامية ) في الفصل الذي عقده بعنوان ( الفصل الثالث : النظرية الباطلة في الفرق بين الدين والسياسة ) والذي استغرق إحدى وعشرين صفحة ( من 31- 41 ) ، وسننقل فقرات منه فقط هنا ينفي فيها هذا الرأي فيقول :
لو تدبرنا قصة يوسف عليه السلام كما وردت في القرآن ، لعلمنا أنه صار ـ قبل تشريفه بالنبوة ـ مملوكاً لعزيز مصر بسبب غدر إخوته وخيانة إحدى القوافل التجارية ، وفي هذه الأثناء أو بعدها ـ حين دخل السجن ـ حباه الله مقام النبوة ، وغالباُ ما تشرَّف به في الفترة التي عاشها في السجن ، لأن كلامه قبلها لم يكن ذا طابع رسولي ، بل كان يبدو كلام رجل صالح .
حينئذٍ علا شأنه فطفق يدعو لرسالته وما أُمِر به بين رفاق السجن ، وخلاصة دعوته موضحة في سورة يوسف التي لو قرأها أي إنسان اليوم لرأى أنها ما كانت دعوة لأرباب متفرقين بل لعبادة رب واحد ، ولطالما ظل عليه السلام يبين لأهل مصر أن ذلك الملك الذي اتخذتموه رباً ليس بربي ، لكن ربي هو الله ، وله العبادة خالصة ، وأنني أتبع دينه وشرعته .
ولقد ظهرت هذه الدعوة التي كان يبلغها في السجن في صورة علامات غير قليلة تدل على تدينه وتقواه وحكمته وبصيرته ، وتأثر بها ملك مصر تأثراً كبيراً جعله يشعر أنه لو طلب يوسف عليه السلام كافة السلطات منه لتنازل له عنها وأعطاه إياها . فكان أمام يوسف عليه السلام طريقان : أن يختار للثورة الإسلامية طريق الدعوة العامة والصراع والعمليات الحربية طويلة المدى ، وهو الطريق الذي يختاره النبي في الظروف العامة . والثاني أن يستغل وضعه الذي وصل إليه بقدرة الله ، وأن يتقلد السلطات التي نالها من الملك الذي آمن به ، ثم يجتهد بعد ذلك في قلب نظام الفكر والأخلاق والمجتمع والسياسة . وقد أعطاه الله بصيرة نافذة استطاع بها أن يرى أن الطريق الثاني أقرب إلى هدفه وأنفع فاختاره .
فلم يكن عليه السلام يعمل فيذلك النظام غير الإسلامي من أجل حصوله على عيشه وقوت يومه ، أو بهدف الجاه والمجد الشخصي ، أو تحقيقاً لبعض مصالح النظام الفاسد ، وإنما كان عمله تدبيراً وسلوكاً خاصاً اختير لتحقيق الهدف الذي بُعث من أجله ، مثله في ذلك مثل كل الأنبياء .
إن الذين فهموا سلوكه على أنه مجرد (وظيفة) ، وظنوا أن يوسف عليه السلام لم يكن له شأن بإقامة النظام الإسلامي ، وأن غرضه الذي كان يجتهد لتحقيقه كان تدعيم النظام الكافر الذي تقلد فيه وزارة المالية ، إنما يعتبرون يوسف عليه السلام موظفاً كغيره من موظفي الحكومة آنذاك ، بل لم يجعلوا مقامه كمقام واحد من الوزراء المعاصرين ـ وكلكم يعرف سلوكهم ـ إن تأكدوا من عدم جدوى الوزارة في تحقيق هدفهم رفضوا حتى مجرد التفكير في قبولها وتقلُّدها ، وإن قبلوها ثم اكتشفوا أن جوهر السلطة الفعلية لم ينتقل إليهم تركوها ونأوا عنها .
إن المهم ليس السؤال عما إذا كانت سلطات ملك مصر قد طُلبت منه أم انتُزعت غصباً ، أو عما إذا إذا كان يوسف قد عزل فرعون مصر بعد وصوله إلى السلطة أم تركه على عرش البلاد ، وإنما السؤال الذي له الأهمية الأولى : هل طلب سيدنا يوسف هذا المنصب لتدعيم وإقرار النظام الكافر ؟ أم لتحقيق هدفِ بعثتِهِ وهو إقامة النظام الإسلامي ؟ ثم السؤال الذي يليه في الأهمية : هل حصل سيدنا يوسف على سلطات تمكِّنه من قلب نظام الحكم وتبديله أم لا ؟ وفي رأينا أن التصور الصحيح الكامل عن الدين والنبوة يتطلب أن نفهم أن الغرض من طلب يوسف عليه السلام( اجعلني على خزائن الأرض ) يوسف 55 ، هو إقامة النظام الإسلامي ، وأن مراده من المطالبة بخزائن الأرض كان توليه كافة مصادر ومقاليد البلاد .
وإذا كان صاحب الاعتراض ومن حذوا حذوه قد فهموا ( خزائن ) على أنها الشؤون المالية ، فإن هذا اللفظ لم يستخدم في القرآن الكريم في هذا المعنى ، ومن يقرأ القرآن يعرف أن معناه هو المنابع والمقاليد . انظر مثلاً : ( ولله خزائن السموات والأرض ) المنافقون 7 ، ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) الحِجر 51 ، ( أم عندهم خزائن ربك ) الطور 37 ، ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ) غافر 49 .
وبديهي أن استقرار كافة أسس ومصادر بلد ما في يد شخص ، لا يختلف في معناه عن كون هذا الشخص متصرفاً في كل صغيرة وكبيرة فيها ، بل هما معنيان منطبقان تمام الانطباق . وتصديق هذا ما جاء في التوراة عن قصة يوسف عليه السلام ، إذ توضح بصراحة أن فرعون مصر ظل اسماً فقط ، على حين انضوت كل شؤون البلاد تحت أمر يوسف وسلطته ( سفر التكوين ، الإصحاح 41 ، الآيات 38-44 ) ، (سفر التكوين الإصحاح 45 ، الآيتان 8-9 )
وتبقى الآن الدعوى القائلة أن دين الملك ظل باقياُ بعد وصول يوسف عليه السلام إلى الحكم كما هو واضح من الآية : ( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) يوسف 76 .
وأول أمر ينبغي أن يرسخ في الأذهان بخصوص هذه الآية هو أنها فُهمت بطريقة خطأ ، فقد فهمها معظم الناس على أن يوسف ما كان ليستطيع أخذ أخيه في دين الملك ، على حين معناها الصحيح أنه لم يكن يتناسب ومقام يوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك .
وقد جاء في القرآن الكريم ما يضارع هذا التعبير ، وما يفهم منه هو عدم المعقولية والتناسب لا عدم القدرة .
فمثلاً يقول تعالى : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) آل عمران 179 ، فليس معناها أن الله لا يستطيع أن يطلعكم على الغيب ، بل معناها أنه ليس من طبيعة الله أن يطلعكم على الغيب . ومثلها آية (ما كان الله ليضيع إيمانكم ) البقرة 143 ، وآية ( فما كان الله ليظلمهم ) التوبة 70 ، وآية ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ) آل عمران . فليس معنى هذه الآيات عدم قدرة الله على فعل الشيء وإنما معناها أن ذات الله ليس من طبيعتها الظلم أو إضاعة الإيمان أو الخلط بين المؤمنين والمنافقين . وفي سورة يوسف نفسها تقول الآية 38 ( ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ) فهي لا تعني أننا لا نقدر على أن نشرك بالله شيئاً ، بل طبيعتنا وشأننا ليس أن نشرك بالله شيئاً . ومن ثم فتفسير الآية موضع البحث بأن يوسف عليه السلام كان راضياً عن العمل بقانون الملك ( دين الملك ) ، ولم يكن في مقدوره القبض على أخيه بمقتضاه تفسير سقيم غير صحيح ، وتفسيرها الصحيح من واقع استعمالات القرآن لها التعبير هو أنه لم يكن يتناسب وشأن يوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك . وهذه الآية تثبت بالطبع أن قانون العقوبات غير الإسلامي ظل نافذاً في البلاد طيلة سبعة أعوام أو ثمانية ( حتى مجيء إخوة يوسف إلى مصر ) بالرغم من وجود سيدنا يوسف على رأس السلطة . وقد أسلفنا الحديث في هذه النقطة وقلنا إن نظام المجتمع في أي بلد لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها ، كما أن الظن بأن الثورة الإسلامية سوف تقلب كافة قوانين الجاهلية ورسومها دفعة واحدة بمجرد تمكُّنها من السلطة ظن خاطئ ، بل إن الرسول نفسه أمضى عشرة أعوام كاملة في تغيير نظام المجتمع في عصره . وعلى هذا الأساس بقيت قوانين العقوبات وبعض من القوانين الأخرى نافذة في عصر حكومة يوسف عليه السلام لبضع سنوات ـ وليس لنا أن نستنتج من هذا أنه عليه السلام لم يكن يضع نصب عينيه تطبيق القوانين الإلهية بحذافيرها ، وأنه كان يرغب في إقرار القوانين الكافرة وحدها في البلاد .