هكذا يكون القضاء وهكذا يكون القضاة
هكذا يكون القضاء وهكذا يكون القضاة
يقول ربنا - سبحانه - وتعالى في محكم التنزيل: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، وقال: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
فمن نعم الله على خلقه نعمة الفهم والحكمة في القول والفعل من نعم الله على خلقه التي لا تحصى ولا تعد.
واختص الله بنعمة الفهم أنبيائه وأوليائه وكثير من الناس، وكذلك الحكمة في تقدير الأمور، والفصل في المنازعات، وما يكون بين الخلق وبعضهم من خلافات وقضايا. يقول بن القيم: " وتفاوت الأمة في الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص - سبحانه - وتعالى سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داوود بالعلم والحكمة"، يقول ربنا - سبحانه- وتعالي في محكم التنزيل: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي موسي الأشعري - رضي الله عنه -: "الفهم الفهم فيما أولي إليك ". وقال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: "..... إلا فهما يؤتيه الله عبداً في كتابه " وكان ابن تيمية يقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني"، ومما تناقلته الآثار والتراجم عن سلفنا الصالح نماذج كثيرة للفهم الجيد والفصل الجيد في المسائل والنزاعات التي تعرض عليهم نذكر منها:
• ما ذكره القرطبي عند تفسيره لسورة "النساء" فقد ذكر عن "الزبير بن بكار": أن امرأة قدمت على أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - فقالت: "يا أمير المؤمنين: إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله - عز وجل- ". فقال عمر - رضي الله عنه -: نعم الزوج زوجك، فقال "كعب الأزدي " وكان في مجلس عمر - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين: إن هذه المرأة تشكوا زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال عمر - رضي الله عنه -: كما فهمت شكواها فاقض بينهما، قال " كعب الأزدي": إليّ بهما، فقال الزوج: أفي طعام أم في شراب؟! قال "كعب الأزدي": لا، فقالت المرأة:
يا أيها القاضي الحكيم رشده *** ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهدي في مضجعي تعبده *** فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره وليله لا يرقده *** فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها:
زهدني في فراشها وفي الحجل *** أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع *** الطول وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب:
إن لها عليك حق يا رجل *** تصيبها في أربع لمن عقل
فاعطها حقها حقها *** ودع عنك العلل
فقال عمر - رضي الله عنه -: لا أعرف من أي أمريك أعجب؟! من فهمك شكواها، أم من قضائك بينهما؟! اذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
• ما نقل عن خلافة "هارون الرشيد "وما كان فيها من آثار عن قاضيه "أبو يوسف "صاحب أبي حنيفة النعمان فقد كان أبو يوسف قاض الدولة في عهد هارون الرشيد وكان "الفضيل بن الربيع "وزيراً مرموقاً في خلافة هارون الرشيد، وقد حدث أمراً من الأمور وكان فيه هذا الوزير "الفضيل بن الربيع " شاهداً، وذهب هذا الوزير ليشهد أمام قاض القضاة أبي يوسف، وإذا بقاض القضاة لا يقبل شهادته ويردها عليه ويقول له: إني سمعتك يوما تقول لهارون الرشيد بأنك عبده، فإن كنت عبده فشهادة العبد لا تجوز، وإن كنت كاذباً فشهادة الكاذب لا تجوز.
وبذلك فإن من الأشياء الهامة التي يجب أن تكون متوفرة في القاضي تجرده لله، وأن لا يخش في الله لومة لائم وأن يول الحق ويقض به ولو على نفسه أو الأقربين ولا يشغله كون أحد الخصوم رئيساً أو وزيراً وما شابه ذلك إنما يشغله الحق والقضاء به، كما رأينا أن الفهم من نعم الله التي ينعم بها الله على من يتق ويصبر ويتوكل على الله من عباده المؤمنين، وفي القرآن الكريم آيات كريمات تدل على ذلك يقول ربنا - سبحانه - وتعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهذا يكون للمؤمنين الموحدين علم فيه بركة وصلاح البلاد والعباد، وقد يقذف الله بالحق على لسان الكافر ليقضي بالحق كما رأينا في سورة "يوسف": (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) فلم يمنعه من قول الحق أن يوسف خادماً وامرأة العزيز سيدته فصدع بالحق وإن لم يسمع له.
فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وممن يصدعون بالحق ولو كان مرا ويقضون به ولو على أنفسهم أو الأقربين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلي يوم الدين.