جدل بين المفكرين والكتاب حول القوة السياسية التى سيعتمد عليها المشير السيسى مستقبلاً ، وهى معضلة لم يجد لها الأستاذ مكرم محمد أحمد فى مقال له بالأهرام مخرجاً ، فى حين استخف بها بعض من تصدوا للرد عليه .
مصر اليوم ليست مصر الخمسينات ، ولا أدرى كيف يتجاهل البعض حقيقة أن الواقع مختلف ، وأننا لسنا بصدد حل أحزاب واستبدالها بعسكريين ، والعصف بكل من يناوئ حركة الجيش ، وصولاً الى انفراد الضباط بمسئولية الحكم دون شريك ولا معارضة ، انما ستكون المرحلة اختباراً لأحقية المشير فى القيادة فى ميدان مختلف يتطلب مواهب خاصة لا يُشترط توفرها فيه كقائد عسكرى .
بديلاً عن النخبة السياسية حاول الضباط فى الخمسينات تحريك القاعدة الجماهيرية للتصدى لكبار الملاك والرأسماليين ، وكان الهدف ملء الفراغ السياسى بعد حل الأحزاب ، ومحاولة دمج القوى الاجتماعية فى كيان داعم للتوجه الجديد وخادم لأهدافه ، فكانت هيئة التحرير ، التى فشلت لاحقاً فى تحقيق أهدافها لاعتمادها على رجل الشارع العادى اللامنتى الذى لم يمارس السياسة يوماً ، ولاستحالة ضم تنوعات مختلفة فى منظومة واحدة ، ولعدم صلاحيتها لاضفاء الشرعية الجماهيرية على النظام دون مشاركة فعلية فى صنع القرار وانحصار دورها فقط فى اطار العمل التعبوى .
ومن فشل هيئة التحرير الى فشل الاتحاد القومى الى محاولة جدية أخرى فى اشراك القوى الاجتماعية من خلال الاتحاد الاشتراكى ، وهذا التدرج صب فى صالح التطور فى السياق الديمقراطى الذى حدث فى عهد الرئيس السادات الذى سمح أخيراً بتعدد الأحزاب ثم قلصها فى ثلاث اتجاهات – يسار ووسط ويمين – وصار لها تمثيل فى البرلمان ، مع الحرص على انشاء حزب الرئيس وهو الحزب الوطنى الديمقراطى لدعمه سياسياً ومواجهة القوى الحزبية والسياسية فى الشارع وعلى رأسها الاخوان المسلمين .
هذا شبيه بالتدرج الذى حدث فى سياق الحرب والمواجهة مع اسرائيل ، فمن صمود الى فشل الى محاولة جدية للتماسك والعودة فى حرب الاستنزاف فى أواخر عهد عبد الناصر ، الى انتصار وثأر فى عهد الرئيس السادات .
اذاً هناك تطور حتى على مستوى تعاطى العسكريين مع المسألة الديمقراطية ، التى يرونها فى بداية التغيير مستحيلة التطبيق ، وبعد ذلك تصبح محل دراسة وصولاً للحالة التى تبلورت فى عهد السادات ثم تشوهت فى أواخر حكم مبارك .
هناك من يغفل كل هذه المراحل والتجارب ويتهرب من التفكير فى كيفية البناء عليها والاستفادة منها ، ليقفز الى الماضى باستدعاء تجربة الزعيم عبد الناصر الذى لو كان بيننا اليوم لما بدأ بما بدأ به ، انما من حيث انتهينا وبحسب الظروف ووفقاً للمتغيرات ، ولو لزم استلهام تجارب الماضى بحثاً عن السند السياسى ، فما انتهى اليه السادات من انشاء حزب قوى جديد ينافس على الساحة ويمتلك الكوادر والامكانيات التى تمكنه من السيطرة على مقاليد الحكم فى مجتمع أصبح أكثر وعياً وحماسة للتنوع والديمقراطية ، هو الأكثر ملاءمة للمشير السيسى ، وليس العودة القهقرى الى نقطة الصفر العسكرية والحالة الأحادية التعبوية .
أراها القضية الأهم والتى ستحسم مبكراً مستقبل الرجل السياسى ، ومن السهل رصد حيرته ما بين وجوه الحزب الوطنى المنحل الذين اذا استمر بينهم لانتهى سريعاً ، ومن جهة أخرى الأحزاب والحركات الناصرية الضعيفة والمنقسمة بينه وبين حمدين .
فى المقابل يبحث الاخوان عن مناهض للسيسى يدعمونه فى انتخابات الرئاسة ، وربما استهوتهم تجربتهم مع محمد نجيب رحمه الله الذى دعموه فى مواجهة عبد الناصر فى أزمة فبراير 54م ، على أمل التقدم خطوة نحو مركز السلطة ، لكن الأحداث أثبتت فيما بعد ضعف وتردد محمد نجيب فكانت أزمة فبراير التى دفعتهم للوقوف موقف الحياد فى أزمة مارس 54م وكانت أكبر ضربة وجهت لمحمد نجيب وأكبر دعم لعبد الناصر فى صراعه معه ، فكان حياد الاخوان لاحقاً سبباً رئيسياً فى انتصار عبد الناصر على نجيب ، ثم الانفراد بالاخوان لاحقاً واقصاؤهم .
الاخوان حائرون بين الحياد – المقاطعة – أو دعم شخصية على شاكلة نجيب - ضعيفة ومترددة - ، وغالباً ما يختارون الطريق الذى يسهل على خصمهم الاجهاز عليهم ، فلا هذا ولا ذاك فى صالحهم .
مسايرة تطور الديمقراطية فى عهد السادات كانت أفضل من كسره ، والاختيارات الانفعالية تدفع بطبيعة الحال الى نقطة الصفر ، بما يعنى اضطرار الطرف الآخر لأن يبدأ مع الجميع مشوار الديمقراطية من بدايته ، والحكمة تقتضى عدم مصارعة سمك القرش داخل الماء انما استدعاؤه لليابسة ، والفوز على العسكريين سياسياً يتطلب مواصلة مشوار الديمقراطية الطويل حتى النهاية والحذر من مصارعتهم فى ملعبهم .