انحنت الشمس تحكي للجدران المتلاصقة قصة وداع
تمازجت أشعتها مع حلقات الدخان المنطلقة هنا و هناك ..
فرسمت في السماء لوحة متألقة خابية
و مهدت فراشا بديعا للنجوم القادمة في مركب الليل
بين بقايا النور انطلقت أسراب الحمام تغني الجمال ..
تتراقص أفواجا في قلب السماء ..
تثير في ركود الديم ثورة حياة .. و تخفق أجنحاتها بسرعة بديعة كقلب عصفور مرتجف
حلقت حمامة رمادية كبيرة فوق البحيرة الشمالية بسرعة ..
أنبأت البجع بإهلال الغروب فداعبت الأجساد العاجية مويجات البحيرة الهادئة مسرعة إلى الشاطئ
لا مست الرقاب الطويلة أغصان الصفصافة المتدلية .. فاهتزت طربة ندية
حكت أوراقها الخضراء قصص آلاف اللاجئين إليها
اتجهتْ نحوها .. داعبتْ ندى الأوراق ..
صبية صغيرة حلوة ..
في عينيها السوداوين بريق و جمال
و في وجهها الرقيق حنو و شرود
توارت وراء غزارة الأغصان .. منحت الجذع لمسة حانية
و قبلت عيناها تجاويف الشجرة ..
استندت إلى الجذع .. تأملت الشمس الذاوية ..
البريق الذهبي المكلل بحمرة قانية
هبت الصبا .. باردة متأججة .. حركت الأوراق .. فعلا صوت الحكايا
أنصتت .. اجتذبها هدوء الحفيف .. حنوه .. و شروده الحزين
جلست بهدوء في حجر الشجرة ..
استندت إلى الجذع المنحني .. و غابت مع خفق الأوراق :
(( طفلة صغيرة أمْ أمٌ حانية ؟؟
هرعت مع الغروب بسمرتها الدافئة إلي
انطلقت عيناها السوداوان بين أوراقي
لامست الأغصان المتدلية بأناملها النحيلة ..
ثم جذبت الجسد الصغير إلى حضنها ..
أحاطته بنظراتها البريئة الحنون
جذبته إلى صدرها .. أكثر .. و أكثر
ضمته بحنو و ارتجاف .. و على وجهه النضر سالت نظراتها العذبة ..
زادت من شد ذراعيها حول أخيها الصغير ..
و انطلقت شفتاها بتلك الأغنية الشعبية المحببة :
[ أوللا نام .. أوللا نام
بادبجلك طير الحمام
روح يا حمام لا تسديء
باضحك على خيي لينام ]
و ينام الصغير في الحجر الحاني ..
و يخفق رأس الصغيرة من شدة النعاس
تخشى أن تغفو فيصيب الصغير ما تكره إن غفت عنه ..
و لكن سلطان الكرى لا يقهر
و تغفو الصغيرة ..
عصف الثلج في قلب الليل ..
اختفت النجوم البارقة في أعماق العاصفة ..
و غاب البدر و راء نزيف الثلج
ضممت أوراقي حول الصغيرين
أحطتهما بأغصاني المرتجفة
و مرت علي أسوأ ليلة رأيت مذ نموت هنا
حيتني الشمس صباحا ..
رددت التحية بابتسامة مرهقة .. و قبلت وجنتيها الشاحبتين ..
و مع نسمة باردة تذكرت الصغيرة ..
تأملتها .. فإذا هي ما تزال في نومتها الملائكية ..
و الصغير يغفو بين يديها
و تمر الأيام ..
و الصغيرة هادئة في حجري ..
و أنا أتساءل : كم يطول نوم الأطفال ؟ ))
انتهت الحكاية .. بلا نهاية ..
و نهضت الصبية تودع حجر الصفصافة ..
تركتها تملأ الليل بثرثرتها الهائمة .. و سارت في سبيلها حزينة جزلة ..
ما أجمل حكاية تحكيها الأوراق !!
و ما آلم أن تغفو الحياة في القلوب الغضة قبل أن تستيقظ
مع مرور الأيام .. يتدفق الحفيف الهادئ ..
و ترتسم الحكايا في حجر الصفصافة ..
تظل الأوراق تحكي
و تظل الآلام تنمو بين شفتي أغنية
تحياتي
غموض