ـ هناك مبالغة في تصوير أن أفكار سيد قطب تشكلت تحت ضغط السجن والتعذيب ، فكتاباته كما هو واضح لكل قارئ لها تعبر عن فكر أصيل ، وليس مجرد ردّة فعل ..
ـ سيد قطب لا يؤمن بالانقلاب العسكري ، ولا باستخدام القوة في عملية التغيير ، وسوف يتفاجأ الكثير من هذا الكلام ، ولكني أقول وبكل ثقة : هؤلاء المتفاجئون إما أنهم لم يقرءوا كتب سيد قطب أو أنهم جزءوا فكره ، ولم يأخذوه بالكلية ..
ـ سيد قطب يرى أن تطبيق الأحكام الشرعية من فوق على الناس غير صحيح ، بل لا بدّ للناس أن يقتنعوا بهذه الأحكام أولاً ..
ـ إذن ما هو رأي سيد قطب في طريقة بناء الدولة الإسلامية ؟
نلخص رأيه من الظلال :
1 ـ تبليغ الناس الدين الإلهي ودعوتهم إليه ، وتعرية الجاهلية وزيفها ، يقول في الظلال : ( إن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف واظهارها على حقيقتها شركاً وكفراً ... ) .. إذ ( تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله على عهد النبوات أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله على مدار الزمان ) .. حتى ( تغيير ما بأنفسهم ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون ) ..
2 ـ ( بعد ذلك فيستجيب للدعوة ناس؛ يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة . فمنهم من يفتن ويرتد ، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق ) ..
3 ـ ( هؤلاء ـ أي من صدق الله وثبت ـ يفتح الله عليهم ، ويجعل منهم ستاراً لقدره ، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره ، والتمكين في الأرض له ، ليقيم مملكة الله في الأرض ـ أي لينفذ حكم الله في الأرض ـ ليس له من هذا النصر والتمكين شيء ، إنما هو نصر لدين الله ، وتمكين الله في العباد ) .
إذن رأيه في إقامة دولة إسلامية :
دعوة وتبليغ ـ استجابة بعض الناس ـ ثبات وصبر ـ تمكين
وليس هناك أي مجال لاستخدام العنف والقوة والاكراه ..
وهذا المعنى نقرؤه في كتاباته العديدة ..
يقول في كتابه ( دراسات إسلامية ، فصل كيف ندعو الناس ؟ ) :
( إن الحكومة الإسلامية لا تقوم إلا إذا اقتنع الناس أو غالبيتهم بالصورة التي يرسمها الإسلام للحياة، و عرفوا كيف تكون حياتهم و علاقاتهم و حقوقهم و واجباتهم وتكاليفهم كلها لو قامت حياة إسلامية. و لا يكفي أبداً أن ندعوهم اليوم إلى الإسلام في اختصار و إجمال كما كان يدعوهم الرسول صلى الله عليه و سلم، ففي ذلك الزمان لم تكن هنالك نظريات اجتماعية مفصلة تقابل الدعوة الإسلامية. و ما دامت للإسلام نظريات أكثر تقدماً من كل ما عرفته البشرية اليوم، فلماذا لا نعرض للناس هذه النظريات مطبقة على الحياة الحاضرة بكل علاقاتها و ملابساتها و حاجاتها، حين ندعو الناس إلى الإسلام ) .
ويقول في مقدمة الظلال ، وفيه ردٌ على ما تفضلت به أستاذ هشام بأن سيد قطب أراد التطبيق السريع لفكره على الأرض ، فها هو يصرح بأن الطريق طويل والاستعجال غير صحيح :
( ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل ـ الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن ـ ومن ثم لم يكن معتسفاً ولا عجولاً في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج . إن المدى أمامه ممتد فسيح ، لا يحده عمر فرد ، ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت عن تحقيق غايته البعيدة ؛ كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ، وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور . ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا ، ويردعها من هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها . إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة .. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف . . فالزمن ممتد ، والغاية واضحة ، والطريق إلى الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة ، وتتطاول فروعها وتتشابك .. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة . ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون . . والزرعة قد تسقى عليها الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها الظمأ . وقد يغرقها الري . ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل ؛ فلا يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة ، السمحة الودود .. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله .. ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) ..
ويقول في الظلال :
( لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني ، في الانتصار على النفس ، والغلبة على الهوى ، والفوز على الشهوة ) .
يقول في ( لماذا أعدموني ) :
( وبالتالي لا يكون الوصول إلى اقامة النظام الاسلامي وتحكيم الشريعة الاسلامية عن طريق انقلاب في الحكم يجيء من أعلى، ولكن عن طريق تغير في تصورات المجتمع كله ـ أو مجموعات كافية لتوجيه المجتمع كله ـ وفي قيمه وأخلاقه والتزامه بالإسلام يجعل تحكيم نظامه وشريعته فريضة لا بد منها في حسهم ! ) .
ويقول :
( كما أنها تشغل نفسها بمطالبة الحكومات بتطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية بينما المجتمعات ذاتها بجملتها قد بعدت عن فهم مدلول العقيدة الإسلامية والغيرة عليها، وعن الأخلاق الإسلامية.. ولابد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة : وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة، تربية إسلامية صحيحة. وعدم إضاعة الوقت في الأحداث السياسية الجارية. وعدم محاولات فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به ) .
يقول في ( معالم على الطريق ) :
( وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد .. جاء ليحكم الحياة في واقعها ، ويواجه هذا الواقع ليقضى فيه بأمره .. يقره ، أو يعدله ، أو يغيره من أساسه .. ومن ثم فهو لا يشرِّع إلا لحالات واقعة فعلاً ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده ..
إنه ليس " نظرية " تتعامل مع " الفروض " ! .. إنه " منهج " ، يتعامل مع " الواقع " ! .. فلا بد أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة : أن لا إله إلاَّ الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلاً ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم والى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع ، رافضين أصلاً لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من سلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى يكون للنظام هيبته ، ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من واقعية تقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ) .
ولا أظن أن ما قدمناه من كلام سيد قطب يحتاج إلى شرح وتوضيح ، فهو واضح تماماً في أن المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية إنما تقومان على قناعة الناس بهذا الدين أولاً ، وليس بالانقلاب العسكري والتغلب على السلطة ..
تحياتي ودعواتي