لإعلامى الكبير محمود سعد من الشخصيات المرحة المحبوبة ومن أصحاب الحضور اللافت والذوق الفنى الرفيع، ولخلفياته فى دنيا الفن، فهو دائم الحديث عن البديل الحضارى لأفكار وممارسات الجماعات الاسلامية، مدندناً حول فكرة أن الدين معاملات حياتية جيدة، وليس له علاقة بضبط سلوك الانسان الذوقى والأخلاقى، وفى مقابل سلوك بعض المتدينين فى العزلة والمبالغة فى عدم الاختلاط، ذكر نموذجاً قديماً عن "المصرى بتاع زمان اللى كان يقف فى البلكونة "بالفانلة بحمالات والمدام بجواره بقميص النوم أبو كات" ويلعبوا كوتشينة ويشربوا بيرة، ورغم ذلك كانوا متدينين جداً ويعرفوا ربنا كويس ويعرفوا حق الجيرة ويحترموا الشارع.."!
القضية من وجهة نظرى لا تحتاج لفرض مثل هذه النماذج أو استدعاء تلك المقارنات وذكريات البلكونات، فالتدين الحقيقى – أياً كان هذا الدين - يرتبط بأمرين اثنين هما الجلال والجمال، وهما بعدان نحكم من خلالهما على الانسان من حيث الكمال والنقص، فمن افتقد الجلال كان انساناً ناقصاً ولو كان مسلماً متديناً أو مغالياً فى اظهار تدينه بمظاهر شكلية، وكذلك من افتقد الجمال كان انساناً ناقصاً، والقبح أيضاً متوفر فى العرى المنفر وعدم مراعاة الذوق العام.
الجلال هو حصيلة جهد الانسان وصولاً لاستمداد وتملك القوة والكفاءة والخبرة والنفوذ والمادة سواء بالعلم أو المال أو الفكر أو المنطق أو السياحة أو الاستثمار أو التجارة أو الصناعة.. الخ ، وحتى لو كان الانسان متديناً وافتقد لهذا العنصر سقط فى الاختبار الانسانى الحضارى المرتبط بالدين أيضاً، فلا يفيد أى ادعاء أو أى مظهر اذا كانت قيمة الدين وجوهره الذى يمس قضية الاستخلاف والاسهام فى البنيان والعمران ونشر الخير وبذل المعروف غائبة، واذا غابت تلك القيمة غاب الجلال المرتبط بالقوة والكفاءة المادية وصار وجود هذا الانسان باهتاً بلا قيمة تذكر فى الحياة.
البعد الجمالى مهم بلا شك، وحتى يتم التوازن لابد من توفره ليمد الانسان بالبهجة والمتعة الذهنية والبصرية ودوافع الانسجام مع الكون الذى خلقه الله جميلاً، كما خلقه قوياً أيضاً، ففى الكون العنصران الجلال والجمال.
النموذج الذى تحسر عليه الاعلامى المخضرم ربما لا يزال هنا أو هناك، لكن هل هذا هو الجمال وهل هو المشهد المريح للعين المتماشى مع الذوق، وهل هو النموذج الذى يتناسق مع جمال الكون وجلاله، وهل البيرة والكوتشينة وقمصان النوم فى البلكونات من لوازم النهضة والتقدم حتى لو ادعى أصحاب هذا النهج التدين.
التدين ليس بالادعاء انما هو ابداع حضارى متكامل لا يرتبط بالمظهر بقدر ارتباطه بنسق متكامل من القيم الايمانية والتعبدية والأخلاقية والسلوكية والجمالية والمعرفية والذوقية والفكرية.
فى المقابل ماذا فعل المتظاهرون بعلامات التدين والصلاح، فالدين هنا أيضاً ليس بالمظاهر والمزاعم والاستعلاء والعزلة، انما واقع حياتى ملموس، وابداع انسانى ينثر فى دنيا الناس البهجة والسعادة والرفاهية والخير، فأين هم من اختبار الجمال والجلال.
الفن فى شق من تعريفه اللغوى اتقان العمل كما أمر الاسلام؛ فكل حرفى وكل متقن لعمله فنان، بجانب البعد الجمالى والابهار والابداع بمختلف مجالاته ، ونحن اليوم فى حاجة للنموذج الانسانى المتكامل ، الذى يعرف معنى الدين ويطبقه بشموله فى نفسه وأسرته ومجتمعه، وفى حاجة لتربية الأجيال على الجلال والجمال؛ على القوة والخبرة والكفاءة والعطاء وبذل الخير والابداع فى الحياة، وعلى الحس والذوق الراقى بدون تطرف ولا مغالاة من جانب، أو ابتذال وهبوط من جانب آخر.
ليس بالمزاعم اذاً؛ والتدين ليس اختباء وعزلة عن الناس والمجتمع وليس قميص النوم والبيرة مع توفر النية الطيبة، انما عمل ونضال وكفاح وابداع متواصل وأثر طيب فى الحياة.
يمدح الأستاذ محمود "المصرى بتاع زمان يقف فى البلكونة بالفانلة بحمالات والمدام واقفة جنبه بقميص النوم والكوتشينة والبيرة" .
بينما نبحث نحن عن المصرى المسلم والمسيحى الذى يشارك بقوته وذوقه فى محاربة القبح والضعف الذى يغزونا من جميع الاتجاهات ؟ -