قلم كحل أسود .. للأديبة د. نجلاء طمان
وقفتْ أمام المرآة تكتحلْ بهدوء على ضوء أشعةٍ تتلصصْ من ثقوب النافذة ...طرقات على الباب يعقبها دخول أختها الشابة..التى تمد يدها عفوياً تضيء المصباح... ينتشر الضوء ...ترى وجههاً فى المرآة..تتعجبْ..أهذا وجهها ؟ كأنما نامت فى الكهف واستحالت غريبة .. وأصبح وجهها .. وجهاً قديماً تعششْ فى جانبيه الغبار..تقف أختها بجانبها تتأملها فى انبهار ثم تقول:
يالكِ من باهرة الحسن.
تجيب فى سخرية : حقاً!
نعم أنت تعرفين.
تبتسم فى مرارة..بدون أن تتكلم.
تعقب أختها وهى تدرى سر مرارتها:
أدرتِ رؤوس الرجال!
في إيجاز تجيب :
آه! نعم .الرجال يحبون الجمال.
تنظرْ في المرآة... الجمال في وجهها ينتحرْ على سطح حزنٍ داكن مثل فراء الليل... يتفجرْ من نبع آخر في كهوف ضلوعها طيور وحشية... تفقسْ في ثنايا وجهها أفراخاً سوداء... تغرسُ مناقيرها في قلبها.... تثقبُه... فتفورُ نوافير الدم الأسود.. . يأتي صوت أختها من بعيد فتطيرُ الأفراخ :
هل تعلمين ؟ أنت أكبر منى بسبع سنوات , ولكن من يراك معي يعتقد أنك أصغر منى, أنت لا تكبرين يا أختاه!
تضع خاتما فى إصبعها.. كل شىء يصيرْ الى غيره..انها دورة الأيام.. تبدأ رحلتها قادوساً فى ساقية الزمن... ولهذا تهطلُ فى غابة نفسها أمطار الحزن ، يعودْ صوت الأخت فيتوقف المطر:
لك عينان هما أجمل ما فى وجهك , فرعونيتان رائعتان ليت لى مثلهما!
تأخذْ قلم الكحل وتكتحلْ... العيون زجاجية...تكتحلْ بدمع العمر المسروق.. ويتشحْ ضباب المآقى بندفٍ من عسل... يغرقْ فى ليل أسود .. يعودُ صوت الأخت من جديد ,فتعودُ المرآة الضائعة من جديد:
هل تعلمين ؟ أحيانا أشعرُ بالشفقة على زوجك السابق !
ترد فى لا مبالاة وهى تكتحل :صحيح! ولماذا؟
:جمالك أفقده صوابه.
يجمدُ القلم فى يدها... المرآة تتحول الى دوائر ماء يتوسطها وجهها... وصوته يأتى صارخاً فتهتزُ الدوائر فى عنف:
أيتها الجميلة كم رجلا تعشقين ؟
هل تقنعُ أسطورة الجمال برجل واحد ؟
تمتدُ يداه من وسط الدوائر.. تسحبُ عنقها.. وهو يصرخُ فى هياج:
كم أكره جمالك!
كم عدد عشاقك يا فاتنة ؟
أخبرينى يا أسطورة الجمال كم عددهم ؟
ويتسلل صوتها ضعيفا مختنقا : اتركنى أنت مجنون.. مجنون!.
ويضيع الصوت.. ويترسب صمتها فى القاع... تغمرها طحالب ميتة.. تفكر.. تحفرُ صوتا فى الماء.. وتنسى.. ويندلقُ الهذيان .. تصطف الهوامش أمام غبار المرآة وتطالبها بالمشهد ذاته... تكنسها ... تنفض رأسها فى عنف.. وتضع قلم الكحل:
هيا لقد تأخرتْ .
تتناول حقيبة العمل والنظارة السوداء..وتمد يدها لتقفل ضوء الغرفة .. فتجد أنها نسيتْ أصابعها على قلم الكحل الأسود.
التوقيع : الوردة السوداء
قراءة بقلم هشام النجار :
لنتأمل مشاهد الجمال فى هذه التحفة الفنية المطرزة بالروعة ، فمن هى البطلة ومن أختها وهما الشخصيتان الرئيسيتان فى القصة يطل من ورائهما فى الخلفية شبح الماضى ووجه وصوت ويدا رجل ساكن فى الماضى يطارد ويقتحم وينفذ من دائرة الحاضر يسعى ليفرض سيطرته على كيانها وسطوته على حاضرها فتختنق وتذوب فى مآسى وأهوال وأحزان ماضيها معه .
لسنا أمام ثلاث شخصيات فى القصة بل شخصيتان فحسب ؛ رجل وامرأة ، هو يلاحقها من الماضى بجنون ويطاردها شبحه بالظنون السوداء وطمس الحياة الهانئة مع الجمال والروعة فى مستنقع الشكوك الدنيئة ، وهى تجاهد لتهرب من دائرته البذيئة ومن نظراته الجارحة واتهاماته القاسية .
تكتحل لتستعيد ثقتها بنفسها ولترى ذاتها وتكتشف شخصيتها وجمالها بعينيها لا بعينيه ، فى حاضر تكافح للعيش فيه بعيداً عنه وعن المساحة الشعورية التى وضعها فيها زمناً فجعلها تتشكك فى نفسها وتمقت جمالها الذى صار على يديه نقمة لا نعمة .
أختها هى الوجه الآخر منها ، وهى الأنا التى تحدثها وتناضل معها لتنتشلها من الهواجس ومن النظر الى جمالها على أنه لعنة أبدية ومن اساءة الظن بنفسها ومن جنون واختناقات الماضى وملوثاته النفسية والانسانية ، لتكتحل وتشعر بشبابها وتعيش حياتها الطبيعية وترى نفسها وحاضرها بعيون غير العيون التى كانت .
ليست أختها وليست امرأة أخرى بل هى ذاتها البطلة ؛ هى شبابها الذى يصارع ويقاوم بحيويته ونضارته شيخوخة الجسد والروح ويضيئ الأنوار لترى ذاتها أبهى وأنضر ويشع النور والوضوح :
" وقفتْ أمام المرآة تكتحلْ بهدوء على ضوء أشعةٍ تتلصصْ من ثقوب النافذة ...طرقات على الباب يعقبها دخول أختها الشابة..التى تمد يدها عفوياً تضيء المصباح... ينتشر الضوء " .
هى ذاتها البطلة وليست شخص آخر ، لكنها شخصية البطلة الأخرى الأصيلة القادمة من الجذور ومن الطفولة ومن الأصول ومن الجمال وروعة الاحساس والاستمتاع به كانسانة وكأنثى ، قبل أن يجرفها طوفان تلك العلاقة المهينة ويكسر ثقتها ويشوه نظرتها للحياة ويطمس معالم جمالها فتراه كل يوم قبحاً وحزناً وألماً وجراحاً لا تلتئم .
هى الآن تعود من جديد تحاول التماسك وتتحدث شخصيتها الحقيقية – أختها – بالحقائق ، بعد أن كاد الزيف يطغى ويحيلها الى شخص آخر غريب عنها لا تعرفه ، لتأتى الأخرى الأصيلة وتزيل الغبار وترى جمالها من جديد وتتأمله فى حب وسعادة وانبهار بعد أن جعله هو ردحاً سبباً فى الألم والمهانة والشقاء والانكسار :
" ترى وجهها فى المرآة..تتعجبْ..أهذا وجهها ؟ كأنما نامت فى الكهف واستحالت غريبة .. وأصبح وجهها .. وجهاً قديماً تعششْ فى جانبيه الغبار تقف أختها بجانبها تتأملها فى انبهار .. يالك من باهرة الحسن " .
وتحاول أن تصور لنفسها أن ما حدث عادى بالنسبة لرجل ساقه القدر ليعايش هذا الجمال وأن الأمر بسيط لا يستحق كل هذا العذاب " هل تعلمين ؟ أحيانا أشعرُ بالشفقة على زوجك السابق !
ترد فى لا مبالاة وهى تكتحل :صحيح ! ولماذا ؟
: جمالك أفقده صوابه " .
تظهر شخصيتها الأخرى الأصيلة – تأتى أختها – فى الوقت المناسب لتنقذها من الغرق ، لتنفض عنها مشاهد وتصورات الكوابيس الحزينة بفعل الغيرة القاتلة والحقد الأعمى واساءات وتخاريف وخيالات الرجال الملوثة ، تلك التى تربط الجمال فى جبال الهموم وتحبسه فى كهوف الأحزان والظنون المعتمة الموحشة ، وهكذا ترى نفسها على تلك الحالة فى مرآتها ليأتى صوتها القديم يوقظها ، يفزع له طيور الحزن وأفراخ الوحشة :
" الجمال في وجهها ينتحرْ على سطح حزنٍ داكن مثل فراء الليل... يتفجرْ من نبع آخر في كهوف ضلوعها طيور وحشية... تفقسْ في ثنايا وجهها أفراخاً سوداء... تغرسُ مناقيرها في قلبها.... تثقبُه... فتفورُ نوافير الدم الأسود.. . يأتي صوت أختها من بعيد فتطيرُ الأفراخ " .
وكلما طل موت الكآبة والحزن وتكاثرت سحبه وهطلت أمطاره ، عاد صوت شخصيتها الأصيلة ليشعل فى روحها دفء الحياة ويظللها بالسلام والثقة .
" تضع خاتما فى إصبعها.. كل شىء يصيرْ الى غيره..انها دورة الأيام.. تبدأ رحلتها قادوساً فى ساقية الزمن... ولهذا تهطلُ فى غابة نفسها أمطار الحزن ، يعودْ صوت الأخت فيتوقف المطر "
وهكذا لا تتخلى عنها انسانيتها ولا تستسلم حقيقتها الأصيلة للانهزام أمام الأوهام التى نسجها الزوج السابق سنوات طوال سرقت من عمرها وأراد ترسيخها فى الواقع وفى كيانها ليتحول الوهم والظن الأسود واللعنة الدائمة الى حقيقة ، وهكذا كلما عاد هو عادت لتنقذ نفسها منه ولتقتلع الأوهام والأحزان من تربتها ولتنسى تلك السنوات المسروقة بقسوتها وأوجاعها .
" تأخذْ قلم الكحل وتكتحلْ... العيون زجاجية...تكتحلْ بدمع العمر المسروق.. ويتشحْ ضباب المآقى بندفٍ من عسل... يغرقْ فى ليل أسود .. يعودُ صوت الأخت من جديد ,فتعودُ المرآة الضائعة من جديد " .
الصراع أهوج عنيف جداً بينها وبينه ، بين حقيقتها وأصالتها وأوهامه وظنونه وخيالاته القاتلة وماضيه الكئيب .
وفى المقطع الأخير نكتشف أن الصوت المنقذ صوتها هى ، فلا ذكر هنا للأخت ، بل تظهر الشخصية الأصيلة بوضوح وهى تصارع بعنف " تكنسها .. تنفض رأسها فى عنف .. وتضع قلم الكحل "
لنرى هنا مشهد الصراع بعد تجريده وتصفيته ليخلص بين الأصل والصورة المشوهة المترسبة فى المرآه ، بين الرجل بماضيه و شخصية البطلة الأصيلة :
" ويتسلل صوتها ضعيفا مختنقاً : اتركنى أنت مجنون.. مجنون!.
ويضيع الصوت.. ويترسب صمتها فى القاع... تغمرها طحالب ميتة.. تفكر.. تحفرُ صوتا فى الماء.. وتنسى.. ويندلقُ الهذيان .. تصطف الهوامش أمام غبار المرآة وتطالبها بالمشهد ذاته... تكنسها ... تنفض رأسها فى عنف.. وتضع قلم الكحل "
لا وجود لشخص ثالث وما كانت أختها الا هى تصارع الماضى وكآبته وتستعيد تماسكها واحساسها بكيانها ولتعيش من جديد بانسجام وحب وسعادة مع جمالها وانسانيتها وصدقها ، ولذلك كان " السكون " هنا واضحاً ومقصوداً على التاء "هيا لقد تأخرتْ " .
كانت اذاً تضيئ وتصارع السواد والعتمة ، وتجمل وتزين وتصارع القبح ، وتكتحل ليطغى وينتصر الجمال ، وتقاوم الحزن وتخلق مسارات للسعادة تمضى بها .
وتمضى " تتناول حقيبة العمل والنظارة السوداء..وتمد يدها لتقفل ضوء الغرفة .. فتجد أنها نسيتْ أصابعها على قلم الكحل الأسود " ، وانتصرت فقد رأت جمالها وانبهرت به وشعرت بالتوحد مع أدواته " نسيت أصابعها على قلم الكحل الأسود " .
القاصة والأديبة الكبيرة برعت فى استخدام المؤثرات البصرية ووظفت الألوان بأسلوب احترافى وبطريقة بارعة ، وكذلك كان للصوت دوراً رئيسياً فى صناعة الحدث الدرامى ، وبين المراوحة والمزاوجة بين الصوت والضوء فى التصوير الفنى لهذه القصة المدهشة ، خرجت هذه التحفة لتشبع الذائقة الفنية بسرد ازدانت لغته وصدحت بتفانين ومؤثرات الصوت والضوء .