النـــادل
( يالله يا إمي هلا بتتاخر على شغلك ، صارت الدنيا مسا ، عملتلك قهوة ، وحطيتلك اياها جنبك ، انتا ناسي يا إمي إنك نادل محترف .. مش هيك بيحكي لك المدير تبعكم ؟ قوم يا إمي الله يرضى عليك )
يستل رأسه من تحت الوسادة في كسل ٍ ، ويسترق النظر في تثاقل ٍ إلى الساعة المعلقة على حائط غرفته ،ويبتسم في سخرية ٍ حين يتعثر بصره في حسرة ٍ ببرواز ٍ لشهادة هندسة ٍ ، تشير إلى أنه أنهى دراسته بتفوق ٍقبل سنواتٍ خمس .
يجلس على طرف السرير ، ويشعل سيجارته ، ويحك رأسه في فوضوية ٍ ، ويتمتم بعباراتٍ ساخطةٍ على الدنيا بأسرها .
الساعة تقترب من السادسة ، وحافلة الموظفين تنتظره منذ دقائق ٍ عشر ، فيقبل رأس أمه ، ودعواتها تلاحقه كعادتها كل مساء ..
يغلق باب الحافلة لحظة وصوله المطعم ، ويحث الخطا إلى الداخل – كعادته - في همة ٍ وعزيمة .
بيد أن يد ( عاصم ) – زميله في العمل – تخطّفته لحظة ولوجه المطعم ، واتخذا من جانب المطعم مكاناً قصيا ً ..
( كمان شوي راح يجي واحد مهم ، ومعه بنته ، هيك حكى المدير ، وبده اياك انتا تشرف عليهم ..الله يعينك، مهو الحق عليك ، يعني سرعتك ودقتك السبب .. خد على راسك )
يتجه إلى صالة المطعم ، ويعيد فحص ترتيبها بعينيه ، ويتأكد من نظافة المرايا المنتشرة بطريقة هندسية في زوايا الصالة ، ويعاجله المدير بابتسامة الثقة في خبرته بالتعامل مع الشخصيات الهامة .
رجل ٌ تتجسد فيه البرجوازية ، وبدلته الرمادية ورأسه الخالي من الشعر إلاّ قليلاً ، يتأبط فتاة عشرينية ، زادها فستانها الأرجواني وانسدال شعرها على كتفيها جمالا ً وأناقة ً ، يستقبلهما المدير بترحاب ٍ مبالغٍ فيه على الباب ، ويرمق ( حسان ) أن تقدم إلى هنا ، ففعل .
طاولة ٌ مستديرةٌ ، وشمعة قد توسطتها ، وعازفٌ للبيانو وقف وانحنى في لباقة ٍ لهما ، وبحركة ٍ تنم عن خبرة ٍ ، سحب ( حسان ) الكرسي للعشرينية ..
- تفضلي .
ليعيد الكرة نفسها مع البرجوازي ، ويقدم لهما قائمة المطعم ، ويرجع للخلف خطوات ٍ ثلاث .
النظر إلى عينيها يحتاج إلى شجاعة محارب ٍ خاض غمار حرب ٍ دونما استعداد ، وأحلام اليقظة التي ما انفكت والدته تعاتبه عليها ، تطفو إلى عينيه ووجهها الملائكي ..
يتهامسان ، يبتسمان ، يقهقهان ، ولا يدري عن الأمر سبباً ، ويتقدم إلى الطاولة مرة ً أخرى في لباقة ٍ وإنصات .
- عصير فريش – و أشار إليها بيده في تحبب ٍ – و بيرة باردة لي ، ومشاوي .. بسرعة لو سمحت .
- حاضر
ثم إنه تناول من يده قائمة الطعام ِ دون أن ينبسّ ببنت شفة ، واكتفى بابتسامته المعهودة ..
الوقوف في هذه الزاوية يتيح للنادلين مراقبة الجميع من خلال المرايا دون أن يلاحظهم أحد ، وهو لا يزال يراقب حركاتها من خلال هذه المرايا ، و ( عاصم ) منهمك ٌ في تحضير الطلبات ..
( شو رأيك تنسى اللي بتفكر فيه يا حسان ، ياعمي هدول ناس ما بيعرفوا بإن اللي زينا عايشين .. أصحى )
لم يبالِ بكلامه وتناول الطلب من يده ، وتقدم نحو الطاولة بهدوء ٍ ، ثم إنه وبحركاتٍ استعراضية ٍ ، فرش الطلبات على الطاولةِ ، فابتسمت لمهارته ، وبادلها الابتسامة ..
- شكرا ً
- عفواً ..
يرجع إلى زاويته ، ويجهل سر تعلقه بابتسامتها ، ويشعر للحظات ٍ بأنها تبحث بعينيها عنه ، أو هكذا خُيلَ إليه .
( يا عمي والله ما راح يصير شي ، صدقني .. بالكتير راح يعطيك أبوها بقشيش منيح )
يصر في نفسه أن يتجرأ للمرة الاولى في حياته ، ويراقب حركاتها من بعيدٍ في افتتانٍ جلي ، وعقارب الساعة تجري دون أن يجد طريقة ً لمحادثتها ..
يشير بيده لـ ( حسان ) ، فيومئ ُ برأسه ويضع الفاتورة في حافظة ٍ جلدية ٍ أنيقة ، ويتقدم نحوهما ، والأفكار في رأسه تتسابق ..
- تفضل يا سيدي
يتناول البرجوازي الحافظة ويدس بداخلها فئة نقودٍ ذات صفرين يسبقها خمسة .
- بدك شي تاني بابا ؟
تكتفي بابتسامة ٍ ، وترفع رأسها إلى النادل ِ ، وتطلب منه ورقة ً وقلم .
يتناول الحافظة ، ويسرع إلى ( عاصم ٍ )
- بدي ورقة وقلم بسرعة ، صدقني غير تعطيني رقمها ، متاكد شفت بعيونها حكي كتير .. بسرعة يا رجل
- امسك .. خليك بوهمك
- خليك بحالك انتا
ولمـّا همـّا بالإنصراف ، رافق مدير المطعم ِ هذا البرجوازي ، ينشد لديه الرضا عن المكان والطعام .. وبجوار الطاولة يقف ، ويمد له يدها بما طلبت ..
- تفضلي
- شكراً .. شو اسمك انتا ؟
- حسان
يبتعد عن الطاولة قليلاً ويتظاهر بالانشغال بأدوات الطاولة ، تاركاً إياها تدون ملاحظة ً أو رقما ً ، ليس يدري.
يشير لها والدها بيده ، فتحمل حقيبتها وتدس الورقة بداخلها ، وتضع القلم على الطاولة وتمضي ..ونظرات ( عاصم ) تراقبه في المرآة ِ في حسرة ٍ عليه ، وهو ينحسر ، ويرتب أدوات الطعام على الطاولة دونما تركيز .
تتأبط يد والدها ، وتُسر إلى والدها ببضع كلمات ٍ ، فيسبقها إلى الخارج ِ ، ويتركها تحادث مدير الصالة في ود ورضا ..
( يا حسان .. تعال لو سمحت ، الأنسة بدها اياك .. ) وينصرف المدير في أدب ..
يشعر بأن السماء استجابت لدعواته أخيراً ، ويتقدم نحوها في ابتسام ٍ ، وعيناه لا تفارق عينيها أبداً .
( المدير حكى لي عنك إنك ماشاء الله عليك ، احسن واحد هون )
تمد يدها في باطن حقيبتها ، وتخرج ورقة ً نقدية ، تشبه التي رآها في الحافظة الجلدية إلاّ صفراً ، وتدسها في يده .. وتغيب عن العيون في لحظات .
يقلب الورقة النقدية باطنها وظاهرها ، وينظر إلى ( عاصم ) من خلال المرآة ِ ، ويقفل راجعاً نحوه ، ويدسها في يده ، ويخلع إزار النادل في هدوء ٍ .. وينصرف حتى يبتلعه الظلام .
تمت ...