عندما تحتضر الأطيار...
وفجأة اندفع العصفور عبر النافذة ذات الإطار الزجاجي المهشم في اعلى الحجرة الدراسية..اهتزت القاعة وارتجت فرائصها بالصخب والصياح من كل جانب..تعلقت أنظار الصبيان في ذهول بالطائر التائه..تعالت أصواتهم في أزمنة متقاربة : طائر..طائر..أستاذ..طائر..إنه طائر..
انحل عرى الدرس وتحول إلى درس عملي مرتجل في مطاردة حيوان دخيل قاده مصيره المشؤوم إلى هذا الشرك الآدمي العملاق..
أغلب الظن أنه أدرك بغريزته الحيوانية أن قدرا لا يرحم ٱوقعه في مأزق وضيق قد لا يسطيع منهما خلاصا.إثر ذلك،طفق يصوت بكل قواه ويصدر الزقزقة تلو الزقزقة كما لو ٱنه يطلب النجدة والغوث..
كثف من جهوده،وبدا أن اليأس لم يأخذ بعد منه مأخده،فواصل طيرانه ودورانه بطول وعرض القاعة الدراسية عله يقع على فجوة تيسر له السبيل للخروج نحو الفضاء الواسع،غيرأنه لا يلبث أن يرتطم بالإطارات الزجاجية الشفافة الخادعة،إذ أن معظم النوافذ لسوء حظه كانت مغلقة ٱول الأمر.
ارتفعت ٱيادي الصغار في الهواء مشرئبين بٱعناقهم في محاولة يائسة للأمساك بالطائر المرعوب،حتى أن ثلة منهم استعانت بمقاعدها لتيسير المهمة..غير أن المدرس أسرع إلى إبطال مفعول هذا الشغب الطفولي بضربات متتالية فوق مكتبه بواسطة قبضته ثم صاح محذرا :الهدوء ..الهدوء..كفى ضجيجا..افتحوا النوافذ أولا .. حذار من مضايقة الطائر..دعوه يخرج..
يتهاوى بين حين وٱخر إلى الأرض مدحورا بفعل الإعياء والإجهاد المستبدين بكيانه..يتسلل طلبا للحماية بين قوائم الطاولات أو زوايا القاعة..تحاول البراعم الصغيرة عبثا الإمساك به ووجوهها تطفح بالابتهاج،كما لوأنه لعبة مجانية غيرمنتظرة،سيقت إليهم سوقا..ينطلق نداء المدرس بصوت جهوري منبها :يبدو أن المسكين قد خارت قواه..أمسكوه بتؤدة ثم هاتوه بسرعة..
حاول النهوض ململما شتاته بإصرار فولاذي..ينط ويمشي مشية المترنح ليعاود طيرانه ورفرفاته من جديد بجناحين واهنين.من يدري؟ربما انزاحت العراقيل هذه المرة من أمامه للخروج من ورطته..غير أنه أحس على حين غرة بألم ممض ودوار شديد بسبب العديد من الارتطامات بالحواجز المنصوبة أمام جسده المنهوك وبعد أن تطاير معظم ريشه في الهواء..
استسلم جبرا لا اختيارا لمصيره المحتوم..انتهى به قدره إلى مصيدة الصبية بعد أن تقاذفته ٱيديهم من الجهات الأربع على الرغم من توجيهات مربيهم..وقفوا مشدوهين يتأملون المشهد المثير للطائر الجاثم فوق مكتب المدرس:جسد معتدل البنية،بني اللون،مخروطي المنقار،قصير الذيل..كان يبدو كليل المحيا،ذابل المقلتين،منخور القوى،وبالكاد يستطيع الوقوف..
تحلق التلاميد حوله يمدونه ببعض ما لديهم من أكلات وبقايا من فتات ما يحملونه من أطعمة،لكنه كان يشيح بوجهه غير مبال بما يدور حوله..
ـ مسكين..انظروا إلى منقاره..إنه ينفتح وينغلق..
ـ وكذلك جفناه الصغيران..الا ترون؟
ــ ربما هوبحاجة للنوم..
ـ لا أظن ذلك..إنه مريض..
قطع المدرس حبل التحاور بين التلاميذ وبدد حيرتهم ثم قال بنبرة ملؤها الشجن وهو يمرر راحة كفه بلطف على ظهرالعصفورممسدا إياه : لا هذا ولا ذاك يا ٱولاد..إنه يحتضر..
في لحظة من اللحظات،سرت في آوصاله رعدة قوية،ارتج كيانه كما ريشة في مهب الريح..انتفض انتفاضة أخيرة..تداعى في انحسار منهارا ولوى عنقه فوق صدره الغض..
سرب من الطيور يمرالهوينى على مقربة من عين المكان..يملأ الجو بتغاريد الشجى ،كأنما هو قد جاء مشيعا للجسد المنكوب..
تسمر الصغار في أمكنتهم بلا حراك..مطأطئي الرؤوس..متقطعي الأنفاس..شاخصي الأبصار وقد خيمت على أرجاء المكان سحابة صمت رهيب...